في تاريخ الأوبئة التي ضربت البشرية برزت الحمي العرقية التي ظهرت بإنجلترا أواخر القرن الخامس عشر كواحدة من أكثر الأمراض غموضًا و رعبًا عبر التاريخ و ذلك بسبب ظهوره المفاجئ و سرعة إنتشاره بين الناس و شدة أعراضه القاتلة التي تبدء بقشعريرة و حمى شديدة يليها تعرق غزير ثم ينتهي الأمر غالبًا بالوفاة خلال 24 ساعة فقط و بينما كانت المجتمعات تعيش علي إيقاع الفقر و الصراعات في تلك الحقبة فقد أدي ذلك المرض إلي مقتل الألاف من الأشخاص عبر موجات متكررة منه تاركًا وراءه أسئلة محيرة دون إجابات عن سببه و طبيعته و كيفية علاجه و يصبح بذلك لغزًا لم يفك شفرته حتى اليوم .
بدء ظهور وباء الحمي العرقية الغامض عام 1485 بالتزامن مع نهاية حرب الوردتين و صعود ” هنري السابع ” ملكا علي عرش ” إنجلترا ” و يُعتقد أن أول حالات الإصابة به ظهرت بين جنوده عقب معركة ” بوسورث ” و بطبيعة الحال كانت مدينة ” لندن ” العاصمة المكتظة بالسكان هي البيئة المثالية لإنتشاره بسرعة بين الناس حيث سجلت الوثائق التاريخية أن نحو 15,000 شخص لقوا حتفهم في غضون ستة أسابيع فقط خلال أول تفشٍ للمرض الذي أدي إلي حالة كبيرة من الذعر بسبب طبيعته المفاجأة بعد أن كان الأشخاص يبدون بصحة جيدة في الصباح ثم يسقطون ضحايا له في المساء و هو ما دفع المؤرخين إلي وصفه بأنه واحد من أكثر الأوبئة المروعة في تاريخ البلاد .
و لم تكن الحمي العرقية حدثًا عابرًا بل ظهرت علي هيئة موجات متكررة خلال القرن السادس عشر حيث ضربت ” إنجلترا ” أعوام 1508 و 1517 و 1528 و أخيرًا في 1551 كما امتد تأثيره إلي دول مجاورة بعد أن ظهرت حالات في ” ألمانيا ” و ” بلجيكا ” و ” هولندا ” مما زاد من حالة الذعر و كانت موجة 1528 هي الأكثر رعبًا إذ قُتل الآلاف في ” لندن ” وحدها و امتد الذعر إلي القرى و المدن الصغيرة و نظرا لأن المرض لم يكن يميز بين الطبقات فقد شعر النبلاء و الأثرياء بالخطر و هو ما أدي إلي إحداثهم تغيير في أنماط الحياة الإجتماعية و السياسية خلال تلك الفترة .
و نتيجة شدة أعراضه و تأثيراته القاتلة كان الملك ” هنري الثامن ” واحدًا من أكثر الشخصيات المتأثرة بالخوف من الحمي العرقية حيث كانت حياته في قلق دائم من الإصابة بهذا المرض الغامض لذلك قام بإستخدام إستراتيجيات غير تقليدية لحماية نفسه مثل الإنتقال من منزل إلي آخر يوميًا و تجنب التجمعات الكبيرة حتي عندما أصيبت عشيقته ” آن بولين ” بالمرض رفض الإقتراب منها و بدلاً من ذلك أرسل طبيبه الخاص لرعايتها و إنعكس خوفه في رسائله لها حيث عبّر عن قلقه العميق علي صحتها لكنه تجنب المخاطرة بحياته كما ساهم هذا الخوف أيضا في صياغة القرارات الملكية و في رسم السياسة العامة بالبلاط الإنجليزي .
و علي الرغم من تطور الطب في تلك الفترة إلا أن الأطباء كانوا عاجزين عن تفسير الحمي العرقية حيث نشر الطبيب ” جون كاي ” كتابًا حاول فيه تقديم مجرد رؤية عن طبيعته مع نصائح للوقاية من المرض مثل تجنب “الضباب السيئ” و الأطعمة الفاسدة بينما اعتقد فريق أخر أن المرض قد يكون ناتج عن عوامل بيئية في حين رجح أطباء أخرين أنه نتيجة عدوي فيروسية و حتي في العصر الحديث لم يتم التوصل بشكل دقيق عن طبيعته حيث ظهرت نظريات تربط المرض بفيروس هانتا الذي ينتقل عن طريق القوارض لكنه لم يتم العثور علي دليل قاطع يثبت ذلك و هو ما جعل اللغز لا يزال قائمًا و إعتبار ذلك الوباء واحد من من أكثر الظواهر الطبية إثارة للحيرة في التاريخ .
إقرأ أيضا : وباء النوم .. مرض غامض يجتاح قرية يجعل المصابين فيها يسقطون فى النوم لأيام
و لم يكن تأثير الحمي العرقية مقتصرًا علي الصحة العامة فحسب بل إمتد ليغير مسار التاريخ الإنجليزي كله حيث كان من بين ضحاياه الأمير ” آرثر ” الإبن الأكبر لهنري السابع و هو ما دفع بأخيه الأصغر ” هنري ” لتولي العرش لاحقًا حيث لعب هذا التحول دورًا كبيرًا في رسم ملامح فترة حكم ” هنري الثامن ” التي شهدت تغييرات سياسية و دينية كبيرة أدت إلي حدوث تحولات في نمط الحياة الإنجليزي إلي أن إنتهت آخر موجة من الوباء عام 1551 و لم يُسجل بعدها أي تفشٍ مماثل تاركا وراءه أسئلة دون إجابات تمحورت حول عما إذا كان ذلك المرض يمكن عودته مجددا و هل كان مرتبط بظروف بيئية و زمنية محددة أم لا و لكن في كل الأحوال أظهرت الحمي العرقية درسًا هامًا حول هشاشة البشرية أمام الأوبئة و أصبحت قصتها عبرة تذكرنا بأهمية التقدم الطبي في مواجهة مثل هذه التحديات.