مع إندلاع الحرب العالمية الثانية و ما حملته معها من ألام و مأسي دخل العالم الذى انقسمت دوله بين طرفى الصراع فى حالة مزاجية كئيبة و أصبح من الواضح إستحالة تنظيم بطولة الألعاب الأوليمبية التى كان من المفترض أن تنظم بطوكيو فى اليابان عام 1940 و أيضا البطولة التى تليها بلندن فى المملكة المتحدة عام 1944 بجانب الغاء العديد من الفعاليات الرياضية الشهيرة مثل بطولة كأس العالم الا أنه و وسط كل تلك الأجواء السوداوية كان هناك بصيص من الأمل بعد أن قام مجموعة من أسرى الحرب البولنديين فى أحد معسكرات الإعتقال النازية بإحياء ذلك التقليد من خلال تنظيم أولمبياد ولدنبيرج التى تكونت بالكامل بلاعبين من أسرى الحرب الذين أرادوا أو احتاجوا أن يشعروا بألفة و حياة طبيعية في أكثر أوقاتهم يأسًا عبر التنافس فى عدد من الألعاب الرياضية داخل معسكراتهم .
فبعد أسابيع فقط من اجتياح ألمانيا النازية للأراضى البولندية في سبتمبر عام 1939 التى كانت الشرارة التى أشعلت الحرب أُجبر 500 ضابط بولندي أسير على العمل بالقرب من بلدة ” ولديبنرج ” الحدودية مع الألمان لبناء معسكر يقيمون فيه و مع مرور الوقت عام 1942 تم الانتهاء من إنشاء “معسكر ولدنبيرج أوفلاج 2” لأسرى الحرب على مساحة 60 فدانًا و كان بمثابة مدينة مصغرة يبلغ عدد قاطنيها 7000 نسمة و يحتوى على مكتب خدمة بريدية و على عكس الأسرى الموجودين في العديد من المعسكرات النازية الأخرى فقد سُمح للضباط البولنديين المحتجزين خلف جدرانه بممارسة الرياضة سواء كانت جسدية أو عقلية و لعبوا مباريات كرة القدم و تعلموا الفلسفة و القانون و الرياضيات في فصول تعليمية اضافة الى حضورهم لمسرحيات فنية قدمها مخرجين محترفين و أداى أدورها بكفاءة مجموعة من السجناء .
و نتيجة تسبب الحرب فى إلغاء بطولة الألعاب الأولمبية الصيفية عام 1944 التى كان من المزمع تنظيمها في “لندن” بجانب إلغاء البطولة السابقة فى “طوكيو” قبل أربع سنوات ناشد السجناء القائمين على إدارة المعسكر بالسماح لهم بتنظيم الألعاب الأولمبية الخاصة بهم حيث كان لا يزال الكثير منهم يتذكرون الفخر الذي تضخم في قلوبهم عندما فاز مواطنهم “يانوش كوسوسينسكي” بالميدالية الذهبية في سباق 10000 متر في ” الولايات المتحدة ” خلال بطولة ألعاب “لوس أنجلوس” عام 1932 بالإضافة إلى اليأس و الحزن الذي شعروا به عندما سمعوا أن بطلهم الأولمبي قد تم أسره و إعدامه من قبل النازيين بعد القتال في صفوف الجيش البولندي و وافق قادة المعسكرات الألمان على تنظيم ” أولمبياد ولدنبيرج ” لربما لتذكرهم سجل انتصارات بلادهم الرياضي و الدعاية الألمانية التى نالوها في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية عام 1936 التى أقيمت في مدينة “برلين” و لكن رغم موافقتهم الا أنهم منعوا الأسرى من تنظيم مسابقات فى ألعاب محددة و هى المبارزة و الرماية و رمي الرمح و القفز بالزانة و ذلك لأسباب أمنية واضحة .
و وفقًا لمقال نشر عام 1995 في مجلة الجمعية الدولية للمؤرخين الأولمبيين فقد قام الأسرى بطبع برنامجًا أولمبيًا ملونًا ظهر على غلافه سردا للأحداث و أسماء المنافسين و تم إصدار تذاكر لحضور المتفرجين و توزيعهم على مقاعد فى المدرجات حتى أن مكتب بريد المعسكر أصدر طابعًا تذكاريًا يصور عداءًا يخترق شريط خط النهاية و في يوم 23 يوليو عام 1944 تجمع الأسرى في حقل لإقامة حفل افتتاح ” أولمبياد ولدنبيرج ” حيث قال السجين السابق “أركادي فيرجيزينسكي” لشبكة NBC خلال فيلم تم بثه خلال دورة الألعاب الصيفية عام 2004 بأنه كانت الإثارة مسيطرة على المعسكر بأكمله بشكل لا يصدق بعد أن تجمع حوالي 6000 رجل فى لحظة رائعة بذلك المكان ثم رفع العلم الأولمبي الذى كان الوحيد الذى سمح له بالرفع فى تلك البقعه و كان مصنوعا من ملاءة سرير بيضاء و أوشحة ملونة شكلت الحلقات الأولمبية الخمس المتشابكة و خلال رفعه حيا كلا من الألمان القائمين على المعسكر و الأسرى العلم و هو مرفوع في عنان السماء .
و على مدار الـ 21 يومًا التالية تنافس الأسرى في ألعاب كرة القدم و السلة و الطائرة و اليد و ألعاب المضمار و الميدان و رياضات إضافية حيث شارك 369 سجينًا في 464 مسابقة مما يعني أن بعض الأسرى مارسوا أكثر من رياضة واحدة حيث كان التقليد الأوليمبي خلال تلك الفترة يسمح بذلك كما تم تنظيم مسابقات في الأحداث الثقافية مثل الرسم و النحت و الموسيقى و كان يحصل الفائزين على شهادات و ميداليات مصنوعة من ورق منقوش و لم يتم منح أي ميداليات في لعبة الملاكمة لأنها أدت الى حدوث اصابات و كدمات بالغة على أجساد الأسرى الضعيفة حيث عانى الملاكمين بعدد مفرط من الإصابات و كسور العظام لدرجة أن نصف المباريات الستين المقررة لها تم الانتهاء منها قبل أن يتم التخلي عن تلك اللعبة لصعوبة اجتياز اللاعبين لباقى التصفيات .
و رغم شهرة “أولمبياد ولدنبيرج” الا أن المؤرخين يقولون بأنها لم تكن الأولى التى تنظم لأسرى الحرب فقبل أربع سنوات و تحديدا عام 1940 قام جنود من بلجيكا و فرنسا و بريطانيا العظمى و النرويج و بولندا و روسيا و يوغوسلافيا الذين تم احتجازهم في معسكر ” ستالاج 13 ” بالقرب من نورمبرج بألمانيا بفعل المثل و لكن تحت غطاء من السريه حيث صنع المتنافسين في هذه الألعاب علمًا من أحد قمصان الأسرى و استخدموا الطباشير الملون لرسم الحلقات و اللافتات الأولمبية التي تمثل البلدان الأصلية للرياضيين المشاركين بها و نيابة عن زملائهم المتنافسين أقسم سجناء من “بولندا” و “فرنسا” و “بريطانيا العظمى” اليمين باسم جميع الرياضيين الذين تم تسييج ملاعبهم بالأسلاك الشائكة و بذلك أعلنوا افتتاح الألعاب الأولمبية الدولية لأسرى الحرب .
أقرأ أيضا : تسلق الجبال أكثر الرياضات خطورة فى تاريخ الألعاب الأوليمبية
و مع إنتهاء فعاليات “أولمبياد ولدنبيرج” لأسرى الحرب سرعان ما عادت مجددا فظائع الحرب فمع اقتراب القوات السوفيتية من تلك المنطقة في يناير عام 1945 أجبر النازيين السجناء على السير مئات الكيلومترات عبر أقسى ظروف الشتاء لإعادة توطينهم في معسكر آخر و عندما حررهم الأمريكيين في أبريل 1945 وجد أنه لم ينجو من سجناء وولدنبرج سوى 300 شخص فقط كما نجت الأعلام الأولمبية المؤقتة من معسكرات ” ولدنبرج و ستالاج 13 ” و كلاهما حاليا موجود في المتحف البولندي للرياضة و السياحة كتذكير ملموس بالروح الأولمبية التي ظلت مضاءة خلال أحلك أيام القرن العشرين .