في خضم الحرب العالمية الثانية و بينما كانت جيوش الدول العظمي تتصارع فيما بينها لعب مهندس مدني أمريكي من أصول ألمانية يدعي ويليام سيبولد دورًا حاسمًا في إسقاط أكبر و أخطر شبكة تجسس نازية داخل حدود الولايات المتحدة و الغريب أنه لم يكن يخطط علي الإطلاق في أن يصبح جاسوسًا لكن حياته إتخذت ذلك المنعطف الخطير حين أرغمته المخابرات الألمانية علي الإنخراط في ذلك المجال بغرض التجسس علي الأمريكيين و من ثم تحول إلي جاسوس مزدوج يعمل لصالح الولايات المتحدة و هو ما أدى في النهاية إلي القضاء علي تلك الشبكة و تساقط عملائها واحدا تلو الأخر .
وُلد ” ويليام سيبولد ” في مدينة ” مولهايم ” الألمانية عام 1899 و نشأ في فترة شهدت فيها قارة أوروبا إضطرابات ضخمة و إنضم إلي الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولي و عاني ويلاتها مثل الكثير من المحاربين و عقب إنتهائها سعي إلي البدء في حياة جديدة و حين أصبح بعمر 22 عامًا هاجر إلي ” الولايات المتحدة ” عام 1921 بحثًا عن فرص أفضل خاصة بعد أن شهد الإقتصاد الأمريكي في فترة العشرينيات نموًا هائلًا و مع الوقت تمكن ” ويليام سيبولد ” من الإندماج في المجتمع الأمريكي بسرعة حيث عمل مهندس في مصانع الطائرات و هي تجربة لعبت لاحقًا دورًا حاسمًا في قصته و بحلول عام 1936 حصل علي الجنسية الأمريكية و تخلى عن أي إرتباطات بنظام بلده الأم الذي كان يسير بسرعة نحو التطرف تحت قيادة ” أدولف هتلر ” .
و رغم محاولات ” ويليام سيبولد ” الإبتعاد عن الشؤون الألمانية إلي أنه عاد في فبراير عام 1939 لزيارة والدته في ” مولهايم ” و هي زيارة غيرت من حياته بالكامل حيث كانت ” ألمانيا ” آنذاك علي شفا الدخول في الحرب العالمية الثانية و كان النازيين يسعون جاهدين لتجنيد الألمان المقيمين في الخارج للتجسس لصالحهم لذلك فور وصوله إلي مدينة ” هامبورج ” تم إبلاغه بأن جهاز المخابرات الألماني ( الجستابو ) سيتصل به قريبًا و خلال تلك الفترة تعرض لتهديدات و ضغوط نفسية أجبر بسببها علي التعاون مع النازيين حيث لم يكن لديه أي خيارات سوي الموافقة و قام مسؤول ألماني يُدعى ” جاسنر ” بزيارته بشكل متكرر من أجل تدريبه بغرض التجسس علي مصانع الطائرات و جمع معلومات حول المعدات العسكرية الأمريكية .
و رغم موافقة ” ويليام سيبولد ” علي التعاون مع الألمان إلا أنه بداخله إتخذ قرار جريء غير مسار حياته حيث توجه إلي مبني القنصلية الأمريكية في ” كولونيا ” للحصول علي أوراق جديدة بعد سرقة جواز سفره و هناك كشف عن كل ما يعرفه لمكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) و عرض عليهم التعاون و العمل كجاسوس مزدوج لصالحهم و بذلك أصبح ” ويليام سيبولد ” أول جاسوس للولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية ثم عاد إلي ” نيويورك ” في فبراير عام 1940 لبدء مهمته الخطيرة التي تمثلت في التسلل إلي شبكة ” دوقين ” التي كانت بمثابة أكبر و أخطر شبكة تجسس نازية داخل الأراضي الأمريكية .
كانت شبكة ” دوقين ” تدار من قبل ” فريدريك دوقين ” الذي ولد في ” جنوب إفريقيا ” عام 1877 و كان يحمل حقدًا عميقًا تجاه ” بريطانيا ” بسبب حرب البوير و هو ما جعله يتعاطف مع أعدائها و يكرس حياته للإضرار بمصالحها و خلال الحرب العالمية الأولي شارك بعمليات تخريب ضد السفن البريطانية في أمريكا الجنوبية ثم تمكن من الفرار بعد إتهامه بتفجير سفن بريطانية و مع حلول الحرب العالمية الثانية أسس شبكة تجسس قوية في ” نيويورك ” مكونة من 33 جاسوسًا نازيًا كانت مهمتهم الرئيسية هي جمع معلومات عن شحنات الحلفاء و تكنولوجيا الصناعات العسكرية الأمريكية كما تمكنوا من التغلغل داخل المجتمع الأمريكي و قاموا بإرسال معلومات حساسة إلي ” ألمانيا ” .
و بالعودة إلي ” ويليام سيبولد ” فبعد عودته إلي ” الولايات المتحدة ” تم تثبيته في وظيفة إستشارية كمهندس ديزل في ” نيويورك ” بتوجيه من مكتب التحقيقات الفيدرالي و بدأ في التواصل مع أعضاء شبكة ” دوقين ” و إكتساب ثقتهم و بفضل موقعه كجاسوس مزدوج تمكن من جمع معلومات قيمة حول أنشطتهم و تفاصيل تواصلهم مع ” ألمانيا ” و كان أهم إنجازاته هو إقناع مشرفيه النازيين بضرورة إنشاء نقطة اتصال مباشرة بين ” الولايات المتحدة ” و ” ألمانيا ” و بالفعل تم إنشاء محطة إرسال لاسلكية في منطقة “سنتر بورت ” في لونج آيلاند و لم يدرك النازيين أن هذه المحطة كانت تحت مراقبة مكتب التحقيقات الفيدرالي الذي تمكن من التنصت علي أكثر من 300 رسالة سرية تم تبادلها بينهم و بين الألمان .
و بعد 16 شهرًا من المراقبة صدر القرار بإنهاء أنشطة شبكة دوقين و في يوم 28 يونيو عام 1941 شنت ” الولايات المتحدة ” عملية ضخمة بقيادة مكتب التحقيقات الفيدرالي شارك فيها 250 عميلًا في توقيت متزامن لإعتقال 33 جاسوسًا نازيًا في عدة مواقع مختلفة و تم تقديمهم للمحاكمة حيث إعترف 16 منهم بالذنب بينما تمت إدانة الـ 17 الآخرين في ديسمبر عام 1941 أي بعد أيام قليلة من هجوم بيرل هاربر و إعلان ” هتلر ” الحرب علي ” الولايات المتحدة ” و حكم علي ” دوقين ” بالسجن لمدة 18 عامًا و هي أطول عقوبة في هذه القضية و تم تفكيك شبكة التجسس النازية بالكامل .
إقرأ أيضا : إلياس بازنا الجاسوس النازي الذي كاد أن يقلب موازين الحرب العالمية الثانية لصالح الألمان
و بعد إتمام مهمته الوطنية تم نقل ” ويليام سيبولد ” إلي ” كاليفورنيا ” ضمن برنامج حماية الشهود لكن حياته لم تكن سهلة بعد ذلك حيث عاش في عزلة و خوف من أن النازيين قد ينتقمون منه و في عام 1965 تم إدخاله إلي مستشفي نابا للأمراض النفسية حيث شُخص بإضطراب الإكتئاب الهوسي و توفي فيها عام 1970 نتيجة نوبة قلبية و رغم النهاية المأساوية لحياته إلا أن إرث ” ويليام سيبولد ” ظل حيًا كواحد من أهم الجواسيس المزدوجين في تاريخ ” الولايات المتحدة ” الذي ساهم في إسقاط أكبر شبكة تجسس نازية داخل الأراضي الأمريكية و بالتالي حماية بلاده الجديدة من تهديد خطير خلال أحد أحلك فصول تاريخ البشرية .