يعتبر النوم نعمة قد حبانا الله بها فمن خلاله يقوم الجسم بإستعادة نشاطه و يعيد المخ إلي صفاءه الذهني مجددا لذلك فهو أمر ضروري للإنسان و لا يقل أهمية عن الطعام و الشراب فبدونه من الممكن أن يحدث للجسد إنهيار تام بشكل قد يؤدي إلي الوفاة و عبر التاريخ أهتم الكثير من الأطباء بدراسته فى محاولة لمعرفة أسراره و خصائصه و مع ذلك لم نعرف عنه سوي القليل و كان من الملاحظ أنه كلما تعمقنا في دراسته كان يزداد غموضا خاصة عند إرتباطه بظواهر غريبة و مرضية كما حدث حين سقط عدد من سكان إحدي البلدات بدولة كازاخستان في حالة من النوم العميق و بدون أي سبب واضح ثم إزداد الأمر تعقيدا بعد إزدياد الإصابات و وقوف الأطباء و العلماء عاجزين عن محاولة فهم ما يحدث و لا يكون أمامهم سوي بعض من الفرضيات التي ربما قد تكون صحيحة أو خاطئة من أجل تفسير تلك الظاهرة الغريبة التي أطلق عليها إعلاميا إسم وباء النوم .
بدأت قصة وباء النوم في صباح أحد أيام شهر أبريل عام 2010 أثناء تجمع للنساء كان يعملن في سوق مدينة كراسنوجورسك في شمال غرب “كازاخستان” و الواقعة بجوار قرية ” كالاتشي ” و أثناء تبادلهم الأحاديث اليومية المعتادة و هم يشربون الشاي قبل بدأهم العمل كان من بينهم إمراءة تدعي ” ليوبا بيلكوفا ” و التي أنتهت من الجلوس معهم و ذهبت إلي الكشك الخاص بها في السوق و بعد فترة وجيزة ناداها أحد الأشخاص ليسألها سؤالا و لكنه لم يتلقي إجابة و حين ذهبت النساء إليها رأوا ” ليوبا بيلكوفا ” جالسة علي مقعدها و رأسها موضوعة علي الطاولة الموجود عليها الجوارب و القبعات التي تبيعها و هي غارقة فى النوم و لحسن الحظ أن إحدي النساء كانت ممرضة سابقة حيث قامت بفحص نبضها و كان طبيعيا و لاحظت أن ” ليوبا ” كانت تشخر و مع ذلك أتصلوا بالإسعاف و تنقل إلي المستشفي .
وبعد مرور أربعة أيام أستيقطت ” ليوبا ” و هي لا تتذكر أي شيء و أخبرتها الممرضة أنها أصيبت بجلطة دماغية و عبثا حاولت الوقوف من السرير و إنزال ساقيها لكن الأمر بدا و كأنهما غير موجودين و أنها ليست أقدامها و لكن بمساعدة من الممرضة بدأت في المشي و قالت لها أنها مندهشة من قدرتها علي المشي بعد تلك الفترة الوجيزة من الإصابة بالسكتة الدماغية و بعد خروجها من المستشفي و خلال الشهر التالي كانت “ليوبا” أكثر عاطفية حيث كانت تبكي في كثير من الوقت و أخبرتها حفيدتها أنها أحيانًا تكون عدوانية كما أشتكت أيضا من حدوث نوبات دوار و معاناة مع الصداع و كان عليها أن تكتب كل شيء حتى لا تنسى و تناثرت قصاصات من الورق على حافة نافذة مطبخها علي شاكلة “أغلقي صنبور الماء” و “أشترِي الحليب” و “تناولي الدواء” و رغم إرتباك ” ليوبا ” إلا أن الكثيرين عزوا ذلك نتيجة التقدم في العمر حيث كانت في سن 61 عاما في ذلك الوقت و مع مرور الوقت بدء الجميع في نسيان مع حدث .
و بعد مرور أسابيع قليلة من حادث “ليوبا” ذهبت “ناديجدا” و التي كانت الممرضة السابقة و العاملة في السوق الحالية إلى الفراش في إحدى الليالي و في صباح اليوم التالي لم تستطع والدتها إيقاظها و كانت تشخر بغزارة و عندما إستيقظت بعد بضعة أيام أخبرها الأطباء أنهم لم يجدوا أي شيء خطأ معها و من المرجح أنها كانت تعمل بمجهود يفوق طاقتها و في حاجة إلي الراحة و أعتقدت أن تفسيرهم هذا منطقي حيث كانت الحياة صعبة في “كراسنوجورسك” و قرية ” كالاتشي ” منذ إنهيار “الاتحاد السوفيتي” و كانت “ناديجدا” متعبة منذ عقود و بالعودة إلي ” ليوبا ” فقد تسببت حالتها خلال العامين التاليين بالدخول إلي المستشفي ستة مرات بسبب نفس الأعراض التي أشتكت منها كما سافرت إلى “روسيا” لإجراء مزيد من الإختبارات حيث قامت المستشفى بعمل أشعة بالرنين المغناطيسي و رسم القلب و قاموا بفحص الغدة الدرقية و في النهاية أخبروها أنها مصابة بإعتلال دماغي من الدرجة الثانية و لم يستبعدوا إحتمال إصابتها بالصرع.
و مع حلول مارس عام 2013 تجمع أهالي البلدة في قرية “كالاتشي” للإحتفال بعيد الربيع و شاهدوا أطفالهم و هم يؤدون الرقصات الكازاخستانية التقليدية و يغنون الأغاني و يتلون القصائد في ملعب القرية و بعد بضعة ساعات جلسوا في البار المجاور في المساء و شربوا طوال الليل و خلال عطلة نهاية الأسبوع الطويلة أصيب ثلاثة أطفال في سن الدراسة و خمسة بالغين بنفس أعراض النوم التي ظهرت علي ” ليوبا ” و ” ناديجدا ” فبعد أن كانوا يثرثرون بالبداية بدأوا في التأرجح كما و لو كانوا فى حالة من السكر ثم ناموا و هم يشخرون بغزارة و كان يمكن إيقاظهم من أجل التحدث أو الذهاب إلى الحمام و حتى تناول الطعام و لكن بعد ذلك يعودون إلي النوم مرة أخرى و أستمروا في هذه الحالة لأيام و عندما أستيقظوا أخيرًا و أستعادوا عافيتهم لم يتذكروا أي شيء و لم يفهم القرويين ما هو الخطأ و لكنهم تهامسوا أنه ربما كان الأطفال يتعاطون المخدرات بينما شرب الكبار كثيرًا .
و رغم محاولة السكان تفسير ظاهرة ” وباء النوم ” تلك إلا أن البعض لم يقتنع بها خاصة بعد تذكر عدد من الحالات المشابهة التي حدثت في الشهور السابقة حيث كان هناك امرأة أخرى تعمل في متجر على الجانب الآخر من السوق و مرضت بعد بضعة أسابيع من “ناديجدا” بنفس الأعراض و كان لا يمكن إيقاظها لعدة أيام كما توجد قصة أخري لطالب في مدرسة ثانوية عاد إلى المنزل من المدرسة و سقط على السجادة مثل “ليوبا” و أستمرت حالته لمدة تسعة أيام و بعدها لم يتذكر أي شيء و قال العديدين حينها أنه ربما تعاطي نوع من المخدرات أو شرب شيئا مسكرا و تذكروا ” جوليا ” أيضا و التي كانت عاملة في متجر تعبر الشارع للتوجه إلي أحد المخابز في “كالاتشي” قبل بضعة أشهر من أعياد الربيع و بعد أن عادت خلعت سترتها و جلست و لكن عندما حاولت الوقوف مرة أخرى لم تستطع و حاولت التحدث لكن كلامها كان مرتبكا و بدأ كما لو كانت تشرب زجاجة من الفودكا و أصبحت مريضة لمدة ثلاثة أيام و عندما أستيقظت أخبرها الأطباء أنها قد أجهدت نفسها و كانت بحاجة للراحة لكن “جوليا” كانت في الثامنة والعشرين من عمرها و لم تكن متعبة بشكل خاص .
و نتيجة كثرة تلك الحوادث بدء سكان كالاتشي و كراسنوجورسك فى ربطها ببعضها البعض خاصة بعد أن بدأت أعداد الإصابات فى الإزدياد بشكل جماعي حيث لم يسلم أي شارع من تلك الأعراض و وصلت أعداد الإصابات إلي أكثر من 130 شخصًا أي ربع إجمالي عدد السكان و كانت هناك أيام يمرض فيها عدة أشخاص في شارع واحد و أيام أخري يمرض الناس بأماكن متفرقة من المدينة في وقت واحد و كان الرجال عادة أكثر نشاطًا و عدوانية و كانوا مضطرين لظبط النفس بينما النساء كانوا الأكثر هدوء في نومهن و لحسن الحظ كان يمكن إيقاظ كل منهم و التحدث إليه وإطعامه حتى أن المدخنين منهم كانوا يشربون السجائر قبل أن يعودوا للنوم و كانت جميع أعراضهم متشابهة مثل الكلام المتداخل و التأرجح و الرؤية المزدوجة و عندما يستيقظون لا يتذكروا شيئًا و كان كل شخص منهم عند فحصه يحصل على نفس التشخيص و هو إعتلال دماغي مجهول السبب .
و بحلول يناير عام 2014 كانت هناك ثلاث موجات من المرض و كان الطالب ” رودي ” في الصف التاسع قد عاد إلى المنزل قادما من مدرسته ليأخذ دفتر ملاحظاته و عندما عاد إلى الفصل قال لمعلمته أنه يشعر بالدوار و بعد إنتهاء اليوم الدراسي كان في الخارج و إتصلت المعلمة بوالدته “ناتاليا” التي وصلت إلى هناك لتجد العديد من المعلمين يحملون “رودي” على مقعد و يهلوس كالمجانين و أخبر والدته أن هناك ثلاجة في السقف و أن الهوبيت و الأفيال في كل مكان و تم نقله علي الفور إلي المستشفي بالتزامن مع وصول مراهقان آخران و بعد فترة وجيزة حضرت “ناتاليا” إلى وحدة العناية المركزة و وجدت إبنها “رودي ” مربوطًا بالسرير و كانت عيناه متقاطعتان مثل السكاري و لم يتعرف عليها و كان تشخيص تلك الحالة هي “الوذمة المنتشرة” و هو تورم عام يحدث في الدماغ و قال الأطباء لها إنه سيختفي من تلقاء نفسه و بعد تعافيه و خروجه من المستشفي بدء يشعر بالتعب و يشكو من الصداع و يعاني أحيانا من إرتفاع في ضغط الدم .
و نظرا لإنتشار تلك الظاهرة وصل العلماء لمحاولة تحليلها للوصول إلي تفسير مقنع و كان معهم المسؤولين الحكوميين لمتابعة ما يجري و الصحفيين لتغطية ذلك الحدث الذي أطلقوا عليه إسم ” وباء النوم ” حيث كانت الشكوك فى البداية تحوم حول منجم قديم لليورانيوم يقع على بعد كيلومترات من المكان و أعتقد العلماء أنه ربما حملت الرياح شيئ من داخله و قامت بنشره داخل المدينة و القرية لذلك تم إرسال فريق من معهد السلامة الإشعاعية و البيئة في أبريل عام 2014 و قاموا بقياس مستويات الرادون على الرغم من أنه يسبب سرطان الرئة و ليس النعاس كما أختبروا الأرض و الهواء و الماء و الطعام و تم وضع الطماطم و البطاطس و الخيار في أكياس بلاستيكية و كشفت الإختبارات أن مستويات الرادون كانت مرتفعة بطبيعة الحال بسبب وجود منجم اليورانيوم إلا أنها لم تصل إلي درجة خطيرة لذلك تم إستبعاد تلك الفرضية .
و بدأت محاولات جديدة لتفسير ظاهرة ” وباء النوم ” و لكن نتيجة عدم الوصول إلي شئ حاسم بدأت بعض من الأقاويل في الإنتشار بين السكان و قالوا أن الدولة ربما هي من تقوم بذلك من أجل إعادة توطينهم هم و سكان قرية ” كالاتشي ” في مكان أخر و أقسم رجل أنه رأى أشخاصًا يدفنون البراميل في مهاوي عندما كانوا يغلقون المنجم و قال شخص آخر إن الحكومة عثرت على الذهب تحت المدينة و أرادت إخراجه لذلك قاموا بتسميمهم لدفعهم علي النزوح من ذلك المكان أو ربما أرادت الحكومة جعل المدينة منطقة عسكرية مغلقة أو منتجعًا للأثرياء خاصة بعد ملاحظة تحليق للمروحيات في سماء المنطقة و ربما كانوا قد رشوا شيئا ما أثناء طيرانهم و ما زاد من يقينهم من ضلوع الحكومة في ذلك ملاحظتهم أن العلماء و المسئولين و الصحفيين لم يصابوا بتلك الأعراض كما تمادي البعض منهم و قال أن من وراء ذلك هم مجموعة من الأشباح حيث شاهد بعضهم أجسامًا غريبة في المكان عبارة عن كرات صغيرة حمراء و زرقاء معلقة على إرتفاع بضعة أمتار فوق الأرض و ربما هي من تسببت فى ذلك .
و بدأت الأمور تزداد سوء مع بداية العام الدراسي الجديد في سبتمبر عام 2014 حيث بدء تسجيل عدد من الإصابات الجديدة بوباء النوم لدي العديد من الطلبة في يومهم الأول و بدء نقلهم إلي المستشفيات و كان التشخيص هو أن لديهم إعتلال دماغي مجهول السبب و بعد عدة أيام تحسنت حالتهم و تم التصريح لهم بالخروج و كان تفسير الشرطة أنهم ربما قد أستنشقوا مادة “ديكلوروفوس” و هو مبيد حشري إلا أنه لم يكن تفسير مقنع لصعوبة وجود الأطفال جميعهم فى مكان واحد و نتيجة إنزعاج الأهالي زار حاكم المنطقة “سيرجي كولاجين” قرية “كالاتشي” للمرة الأولى و تعهد بمراقبة الوضع شخصيًا و أنشأت الحكومة لجنة حكومية دولية و عاد المعهد النووي لإجراء مزيد من الإختبارات و قاموا بجمع عينات من الأظافر و الشعر و تطوع الناس للإختبار في المركز الطبي العلمي الوطني في أستانا و في المعهد النووي .
و عادت الإتهامات إلي الأشعاع مجددا و لكن لم يكن هناك أي أدلة جديدة تشير إلي ذلك ثم أنتقلت الإتهامات إلي أول أكسيد الكربون بعد أن كشفت إختبارات الدم عن وجود تركيزات عالية من الكربوكسي هيموجلوبين في خلايا الدم الحمراء التي تعيق توصيل الأكسجين و كان لدى الأشخاص الثلاثة الذين خضعوا للاختبار أكثر من 25٪ و هو المستوى الذي يعتبر تسممًا متوسطًا كما أنهم في الشتاء الماضي أخذوا عينات دماء من 160 شخصًا 30 منهم كانوا من المرضى و وجد أن 30٪ من إجمالي الأشخاص الذين تم اختبارهم لديهم تركيز أكثر من 15٪ و هو ما يعتبر تسممًا خفيفًا و مع ذلك إلا أنهم لم يكونوا متأكدين من أن ذلك قد يؤدي إلي حدوث ” وباء النوم ” .
أقرأ أيضا : وباء الضحك .. مرض غريب يصيب قرية تنزانية يجعل كل من يصاب به لا يتوقف عن الضحك
و بعد شهور من ذلك بدأت موجة جديدة من ” وباء النوم ” و أصابت 60 شخصا إلا أن الأعراض تلك المرة كانت قد شهدت تغيرا حيث كان المرضي يصابون بالفواق أثناء وجودهم في حالة النوم و بدا من الواضح أن ” وباء النوم ” قد شهد تغييرا أو تحورا و هو ما دفع الحكومة إلي الإجتماع و مناقشة إعادة توطين سكان القرية في مكان أخر حيث قامت بعض من العائلات بالفعل بترك المكان بينما رفض البعض الأخر الإنتقال إعتقادا منهم أن الحكومة هى المتسببة في ذلك من أجل دفعهم علي النزوح لذلك أعتبروا ” وباء النوم ” مثله مثل البرد سيأخذ وقته و يختفي خاصة بعد أن طمأنهم الأطباء أن الفحوصات لا تحتوي علي أي أمور خطيرة أو ملفتة للإنتباه .