في عام 1937 شهدت الحدود الواقعة بين دولتي هايتي و جمهورية الدومينيكان مذبحة جماعية مروعة راح ضحيتها الألاف من المواطنين الهايتيين و علي الرغم من أنها كانت مجهولة أو منسية عالميا إلا أنها ظلت محفورة لفترة طويلة في الذاكرة الجماعية لدي هؤلاء السكان بعد أن حمل الجنود الدومينيكانين لأغصان من البقدونس و طلبهم من الأشخاص المشتبه بإنتمائهم إلي هايتي نطق إسمها باللغة الإسبانية و نظرا لأن لغتهم الأولي كانت الكريول الهايتية فقد وجدوا صعوبة في نطقها بشكل صحيح و هو ما كان سبب كافيا لفقدان حياتهم و إطلاق إسم مذبحة البقدونس علي تلك المجازر التي قدر المؤرخين أعداد ضحاياها ما بين 9000 إلي 20000 شخص و تسببت في وجود حاجز نفسي بين مواطني كلا الدولتين لا يزال موجود حتي اللحظة .
كانت لمذبحة البقدونس خلفية تاريخية بدأت بوجود توتر في العلاقات بين دولتي ” هايتي ” و ” الدومينيكان ” بسبب النزاعات الإقليمية و التنافس على موارد إقليم ” هيسبانيولا ” و خلال الفترة ما بين عام 1910 و حتي 1930 كانت هناك هجرة واسعة النطاق للهايتيين إلى البلدان المجاورة لهم في ” كوبا ” و جمهورية ” الدومينيكان ” بحثًا عن عمل في مزارع السكر و قدرت أعداد الهايتيين المهاجرين إلي ” الدومينيكان ” بالألاف و نتيجة ذلك التدفق الكبير فقد أدي ذلك إلي حدوث مزيد من التوتر في العلاقات المعقدة بالأساس بين الدولتين خاصة بعد أن رأت السلطات في ” الدومينكان ” أن تلك الحدود بذلك الشكل تمثل عائقًا من حيث إحتمال تشكيل مجموعات ثورية يمكنها الفرار عبرها بينما تقوم في نفس الوقت بتكديس الأسلحة و الأتباع علي تلك الأراضي .
و ما زاد من الأمور تأزما و كانت بداية لمذبحة البقدونس هو تردي إقتصاد البلاد و دخوله في حالة من الركود خلال فترة الكساد العظيم التي إجتاحت العالم في ذلك الوقت لذلك أوضح دكتاتور الدومينيكان ” رافائيل تروخيو ” و الذي كان من أشد المؤيدين لمناهضة المهاجرين الهايتيين نواياه و ذلك في خطاب قصير ألقاه في 2 أكتوبر عام 1937 خلال إحتفال على شرفه في مقاطعة “داجابون ” حيث قال أنه علي مدار عدة أشهر ذهب إلي الحدود و تحقق من إحتياجات السكان الدومينيكانيين فيها و الذين كانوا يشكون من أعمال النهب و سرقة الماشية و المؤن و الفواكه التي يقوم بها الهايتيين و بالتالي مُنعوا من الإستمتاع بسلام بمنتجات عملهم لذلك فهو عليه إصلاح ذلك الأمر و بكل الوسائل الممكنة .
و لمعالجة الوضع الذي زعم به الديكتاتور ” رافائييل تروخيو ” أمر جيشه بقتل جميع الهايتيين الذين يعيشون في الحدود الشمالية الغربية لجمهورية الدومينيكان و في أجزاء معينة من منطقة ” سيباو ” المتاخمة و خلال الفترة ما بين 2 أكتوبر و 8 أكتوبر بدأت ” مذبحة البقدونس ” بتدفق مئات من القوات الدومينيكية الذين جاء معظمهم من مناطق أخرى من البلاد إلى “سيباو “ و بدأوا في إستخدام البنادق و المناجل و السكاكين و الحراب لقتل الهايتيين و بحسب ما ورد فقد تم إلقاء الأطفال الهايتيين في الهواء و إقتناصهم بحراب الجنود ثم بعدها يلقون على جثث أمهاتهم كما قطعت القوات الدومينيكية رؤوس الآلاف من الهايتيين و إقتادت آخرين إلى ميناء مونتكريستي حيث ألقوا في المحيط الأطلسي ليغرقوا و أيديهم و أقدامهم مقيدة و بعضهم تم التعمد إصابته بجروح من أجل جذب أسماك القرش إليهم و روى الناجين الذين تمكنوا من عبور الحدود و العودة إلى “هايتي” قصصاً مروعة عن تعرض أفراد من أسرهم للتقطيع بالمناجل و الخنق و ضرب الأطفال بالحجارة و جذوع الأشجار و من شدة أهوال تلك المجازر أعترف الجنود الدوميناكنيين بأنه من أجل إرتكاب مثل هذه الأفعال كان عليهم أن يسكروا .
و أثناء إعطاء الديكتاتور ” رافائييل تروخيو ” أوامره شدد علي جنوده ضرورة التفرقة بين السكان الأصليين الدوميناكنيين و المهاجرين الهايتيين لذلك كان علي الجنود حمل غصنًا من البقدونس لشخص ما ثم يسألونه عما يكون و بحسب نطق الشخص لإسمها بالإسبانية و هي ” بيريجيل ” كان يحدد هويته و بالتالي مصيره حيث كان الهايتيين يجدون صعوبة في نطق حرف الراء و كانوا ينطقونه بشكل مضغم مثل الفرنسيين و هو ” بيغيجيل ” بعكس المواطنيين الدوميناكنيين الذين كانوا ينطقوها بشكل طبيعي لذلك كان أسلوب النطق هو من يحدد هوية صاحبه و بالتالي مصيره و لذلك أطلقت علي تلك المجزرة المروعة إسم ” مذبحة البقدونس ” .
و علي الجانب الأخر خلال ” مذبحة البقدونس ” منع الرئيس الهايتي ” ستينيو فنسنت ” أي حديث حولها و أصدر بيانًا في 15 أكتوبر يعلن فيه عن أن العلاقات بين ” هاييتي ” و جمهورية ” الدومينيكان ” جيدة و لم تتعرض لأي ضرر لكن كان في الكواليس يحاول الضغط من أجل تحقيق العدالة للعمال المقتولين و حين فشل في ذلك المسعي بدأت تندلع إحتجاجات ضده بعد عامين من الصمت النسبي حيث كان من المعروف عنه بأنه تربطه علاقة تعاون و دعم مالي من حكومة ” تروخيو ” و بعد محاولة إنقلاب فاشلة ضده إضطر في نهاية المطاف إلى طلب إجراء تحقيق و وساطة دوليين و بسبب عدم رغبته في الخضوع للتحقيق و بضغوط من إدارة الرئيس الأمريكي ” فرانكلين روزفلت ” التي وصلتهم برقيات تصف هول المجازر عرض الديكتاتور ” رافائييل تروخيو ” دفع تعويضات لهايتي و رغم دفعها إلا أنها لم تصل إلي مستحقيها بسبب البيروقراطية و الفساد الذي أستقطع أجزاء كبيرة منها لصالح المسئولين المحليين .
أقرأ أيضا : حرب الخنزير .. قصة حرب كادت تشتعل بين الأمريكيين و البريطانيين بسبب خنزير
و عقب الإنتهاء من ” مذبحة البقدونس ” و تداعياتها بدأ ” تروخيو ” في تطوير المناطق الحدودية لربطها بشكل أوثق بالمدن الرئيسية و المناطق الحضرية في جمهورية الدومينيكان كما تم تحديث هذه المناطق مع إضافة المستشفيات الحديثة و المدارس و المقرات السياسية و الثكنات العسكرية و مشاريع الإسكان فضلاً عن إنشاء طريق سريع لربط المناطق الحدودية بالمدن الكبرى كما تم تقييد عدد الهايتيين المسموح لهم بدخول جمهورية الدومينيكان و سن سياسة حدودية صارمة و تمييزية في كثير من الأحيان .