من الصعب الحديث عن قائمة تضم أبرز الجواسيس على مدار التاريخ الا و أن يكون البريطانى كيم فيلبي فى مقدمة أسمائها ذلك الشخص الذى قضى أغلب حياته المهنية في جهاز المخابرات السرية البريطاني SIS خلال الحرب العالمية الثانية و أوائل الحرب الباردة منهم عشرة سنوات رأس فيها قسم مكافحة التجسس السوفيتي حقق فيها إنجازات تحسب اليه إضافة الى أنه كان محبوبا من قبل زملائه و مهذبا فى تعامله معهم و هو ما جعله يتقلد أرفع الأوسمة فى بلده و لكن المفاجأة أن كل ذلك ما هو الا مجرد غطاء لوجه أخر له كأشهر جاسوس سوفيتى عمل داخل المملكة المتحدة أى بعبارة أخرى كانت وظيفته هي الإمساك بأشخاص مثله لذلك كان وقت اكتشاف هويته الحقيقية صدمة كبيرة و ضربة قوية لجهاز الإستخبارات البريطاني بعد أن استطاع خداعه طيلة تلك السنوات التى اكتسب على إثرها لقب أعظم خائن لبريطانيا .
وُلد “هارولد أدريان راسل فيلبي” او كما يعرف ” كيم فيلبي ” عام 1912 و ينحدر من عائلة ثرية حيث كان والده يعمل في الهند البريطانية و اعتنق الإسلام فيما بعد و كان مستشارًا للملك “بن سعود” ملك المملكة العربية السعودية و من مفارقات القدر أن والده استطاع اقناع السعوديين بالتعاون مع بريطانيا و الولايات المتحدة بدلاً من الاتحاد السوفيتي ( روسيا حاليا ) بينما انتهى الأمر بابنه بالعمل لصالح السوفييت لمدة 30 عامًا حيث تلقى تعليمه فى فترة شبابه بجامعة “كامبريدج” و أثناء وجوده فيها ارتبط بالاشتراكيين البريطانيين و هو شيء تناوله لاحقًا بالقول: “عندما كنت طالبًا جامعيًا في التاسعة عشر من عمري كنت أحاول تكوين آرائي حول الحياة و ألقيت نظرة جيدة حولي و توصلت إلى نتيجة بسيطة مفادها أن الأغنياء يتمتعون بها لفترة طويلة جدًا بينما الفقراء كانوا يعانون منها بشكل سيء للغاية و ظنتت أنه قد حان الوقت لتغيير كل شيء ” و نتيجة إيمانه بذلك فقد دفعته الرغبة في تحقيق المساواة إلى العمل في القلعة الرئيسية لليسار في ذلك الوقت و هو “الاتحاد السوفيتي” و في عام 1933 تم تجنيد ” كيم فيلبي ” في “فيينا” من قبل عميل المخابرات السوفيتية “أرنولد دويتش” حيث برر قبوله بالتجنيد لصالح السوفييت و خيانته لاحقا بأنه دائمًا ظل وفيا لقناعاته و أن هذا كان أكثر أهمية بالنسبة اليه من الولاء لبلده .
و خلال تجنيده قام ” أرنولد دويتش ” بإقناع ” كيم فيلبي ” بأنه سوف يكون مفيدا بكثير للقضية الشيوعية أكثر من أى اشتراكي مخلص أخر و لذلك فى مطلع الثلاثينيات و بعد تجنيده بدأ ” فيلبي ” في إخفاء معتقداته السياسية و عمل كمراسل لجريدة ” التايمز ” و أرسل تقارير من “إسبانيا” الفاشية و أشاد علنًا بالجنرال “فرانكو” و تدريجيًا بدأت خبرة “فيلبي” الدولية فى نيل اهتمام المخابرات البريطانية به حيث عرضت عليه وظيفة للعمل بها ليوافق على الفور و مع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 أصبح “كيم فيلبي ” عميلاً هاما لا غنى عنه للاستخبارات السوفيتية حيث زودهم بتحذير مسبق من “عملية بربروسا” و غزو “ألمانيا” لأراضيه و عن نية “اليابان” لضرب جنوب شرق آسيا بدلاً من مهاجمة الاتحاد السوفيتي حيث تم تجاهل التحذير الأول لكن الثاني كان مهما نظرا لتأكيد تلك المعلومة من قبل عميلهم الأخر الروسي الألماني “ريتشارد سورج ” ليقوم ” جوزيف ستالين ” بنقل قواته من الشرق الأقصى و نشرها حول موسكو و مع نجاح البريطانيين فى فك شفرة ” اينجما ” البالغة التعقيد و التى كان يعتمد عليها الألمان فى التراسل فيما بينهم و تمكنهم من قراءة المخططات الألمانية السرية طوال الحرب و بينما لم يكن رئيس الوزراء البريطانى أنذاك “وينستون تشرشل” في عجلة من أمره لمشاركة جميع تلك المعلومات مع حلفائه السوفييت كان “كيم فيلبي” يقوم بهذه المهمة سراً نيابة عنه حيث كان يقول أنه فى تلك الفترة كان يغادر المكتب كل يوم و معه حقيبة كبيرة مليئة بآخر الأوراق و التقارير السرية و يسلمها إلى الشخص الذي يتعامل معه حيث يقوم بتصويرها و أرسالها إلى “موسكو” بينما يعيد “فيلبي” النسخ الأصلية إلى مكانها ليستكمل عمله فى ظل تلك التقارير فى اليوم التالى .
و رغم كل الخدمات التى قدمها ” كيم فيلبي ” الى ” الاتحاد السوفيتى ” الا أنه كان يعتز كثيرا بما قدمه خلال “معركة كورسك” عام 1943 فمن خلاله استطاع السوفييت معرفة أين كان الرايخ الثالث يخطط لتوجيه الضربة الحاسمة ضدهم و التى كانت بالقرب من قرية “بروخوروفكا” حيث استطاع بالمعلومات التى قدمها ايقاف هجوما قويا من الدبابات الألمانية و التى اعطت دفعة للسوفييت فيما بعد للتخطيط لتوجيه الضربة القاضية للألمان فى تلك المعركة و ينتصرون بها فى النهاية حتى أن “سيرجي إيفانوف” رئيس قسم العلاقات العامة لجهاز المخابرات الخارجية الروسية قد صرح لوكالة “ريا نوفوستي” أنه عندما سُئل “فيلبي” عن إنجازه الرئيسي في الحياة كان يقول مرارًا” بروخوروفكا ” .
أقرأ أيضا : فيتالي يورتشينكو الجاسوس الروسي الذى تلاعب بالمخابرات السوفيتية و الأمريكية فى وقت واحد
و رغم كل ما يقدمه ” كيم فيلبي ” الى الاتحاد السوفيتى سرا كان فى العلن يعمل بإخلاص فى وظيفته داخل جهاز المخابرات البريطانى لذلك فبداية من عام 1944 و بعد أن تمت الإطاحة برئيسه تم تعيينه كمسئول عن القسم التاسع داخل المخابرات البريطانية و المعنى بالاشراف على العمليات المناهضة للشيوعية و خلال عمله في منصبه الجديد كان يواصل نقل المعلومات إلى “موسكو” مع تغطية أساليبه بشكل أكثر مهارة لدرجة أنه في عام 1946 حصل على وسام الإمبراطورية البريطانية من الملك جورج السادس نظير جهوده فى مكافحة الشيوعية داخل البلاد رغم أن عمله كان مهددا بالخطر فى احدى اللحظات خلال عام 1945 حين قرر “كونستانتين فولكوف” نائب القنصل السوفيتي في “تركيا” الإنشقاق و تواصل مع البريطانيين لعقد صفقة فى أنه مقابل اللجوء السياسي و المال كان مستعدًا للكشف عن أسماء ثلاثة عملاء سوفييت مهمين في “لندن” اثنين منهم يعملون فى وزارة الخارجية بينما الثالث فى قسم مكافحة التجسس أى أن “فيلبي” هو المقصود و لحسن الحظ كان هو من أرسله البريطانيين للاجتماع مع “فولكوف” كممثل عن المخابرات البريطانية و أبرق إلى “موسكو” لابلاغهم بالخبر الذين سارعوا بإلقاء القبض على “فولكوف” قبل ان يصل ” فيلبي ” الذى أخبر رؤسائه بأنه لم ينجح فى الوصول اليه .
و رغم ما فعله ” كيم فيلبي ” فى عمله لدفع الشبهات عنه الا أن الشكوك بدأت تحوم حوله عام 1951 بعد هروب اثنين من البريطانيين الذين كانوا يعملون كجواسيس سوفييت إلى “موسكو” و الذين تم تجنيدهم بناءً على توصية منه و هم “دونالد ماكلين و جي بورجيس” حيث كان “ماكلين” على وشك الانكشاف بالفعل أما “بورجيس” و الذي نظم هروب “ماكلين” هرب هو الأخر دون إذن مما أضر بشدة بموقف ” كيم فيلبي ” نظرا لأن المخابرات البريطانية كانت على علم بأن “فيلبي و بورجيس” يعرفان بعضهما البعض و أعتقدت أنه من المحتمل جدًا أن يكون فيلبي هو “الرجل الثالث” لذلك فقد تم إخضاعه الى الإستجواب اليومى حيث احتفظ العميل السوفيتي بأعصابه بشكل مثير للإعجاب و لم يتمكنوا من اكتشاف أى دليل ضده و في النهاية تم اطلاق سراحه و لكن عزل من منصبه كرئيس قسم الجاسوسية الشيوعية المضادة و تم تبرئته رسميًا و في عام 1955 عقد مؤتمرا صحفيا أعرب فيه عن غضبه لاتهامه بالتجسس قائلا أن آخر مرة تحدث فيها إلى شيوعي و هو يعلم أنه شيوعي كانت في وقت ما عام 1934 و بالفعل صدقه الناس .
و خلال الفترة ما بين أعوام 1956-1963 عمل ” كيم فيلبي ” في الشرق الأوسط ظاهريًا كصحفي و لكن في الواقع كوكيل للمخابرات البريطانية (و وكيل موسكو بالطبع ) و لا يعرف الكثير عن هذه الفترة من حياته الا أنه في عام 1963 تم الكشف عنه أخيرًا بفضل الشهادات التي قدمها المنشقون الجدد إلى الغرب و كذلك من قبل صديقة قديمة كشفت عن معتقداته الشيوعية لذلك فمع قرب تضييق الخناق حوله قام رفاقه السوفيت بتنظيم هروبه من “بيروت” إلى “موسكو” و يعتقد بعض الناس أن البريطانيين تركوا “فيلبي” عمدًا يهرب إلى الشرق لتجنب محاكمة فاضحة و مع وصوله الى “الاتحاد السوفياتي” أصبح متقاعدًا فخريًا حيث نقل إلى المخابرات السوفيتية كل ما لديه و كان يلقى أحيانًا محاضرات دراسية لضباط المخابرات و عاش في شقة بوسط “موسكو” و تزوج فتاة تصغره بعشرين عاما و في خلال المقابلات القليلة التى قام بها قال إنه لا يأسف على شيء و يتحدث عن “الاتحاد السوفيتي” بلفظ “نحن” كدليل على الانتماء اليه على الرغم من اعترافه بأنه افتقد “بريطانيا” قليلاً و وفقًا لبعض ضباط المخابرات فإن العديد من الأشياء التي تورط فيها “فيلبي” و نقلها الى ” موسكو ” مصنفة حتى يومنا هذا بأنها سرية للغاية و قد تظل محاطة بالغموض إلى الأبد حتى بعد وفاته عام 1988 عن عمر يناهر 76 عاما .