كثير هى الأعمال السينمائية التى تناولت عالم الجاسوسية كان أبرزها سلسلة أفلام جيمس بوند أو العميل البريطاني 007 التى حققت نجاحات ضخمة داخل دور العرض و لا يزال لها حتى اللحظة الكثير من المعجبين و المقتبسة عن قصص كتبها الروائي الإنجليزي الشهير إيان فليمنج الذي عمل لفترة ظابطا داخل دائرة الإستخبارات البريطانية و التى من خلالها أطلع علي ملفات العديد من الجواسيس المميزين الذين كان أبرزهم سيدني رايلي أحد أساطير عالم المخابرات و الذي قام بالعديد من العمليات الجريئة لصالح البريطانيين خلف خطوط العدو و بإستخدام أساليب عبقرية تأثر بها الكاتب و ساهمت بشكل كبير في خروج تلك الشخصية الخيالية الشهيرة إلي النور و في تلك المقالة نسرد قصة الجاسوس البريطاني الشهير سيدني رايلي الأب الروحي لشخصية جيمس بوند و الذي كانت حياته محاطة بهالة من الغموض و كانت لغزا كبير لحلفائه قبل أعدائه .
و حتى وقتنا الراهن لا يعرف الكثير حول حياة ” سيدني رايلي ” سوي أنه كان يتمتع بإبتكار الحيل منذ صغره و من المحتمل أن يكون قد ولد بإسم “سالومون” أو “سيجموند روزنبلوم” عام 1873 في مدينة “خيرسون” الأوكرانية التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية الروسية و في أوقات مختلفة من حياته المتشابكة و المربكة أدعى أنه ولد لقبطان أو رجل دين في “أيرلندا” و أحيانا كان والده عقيد روسي أرستقراطي مالك للأراضي حتى أن زوجته نفسها لم تكن تعلم أصوله الحقيقية و أستمرت تعيش و لديها إنطباع بأنه ولد لطبقة من النبلاء البولنديين حتى أن ” سيدني رايلي ” نفسه أدعي قصة جديدة بأن اسم ولادته الحقيقي كان “جورجي” و أنه كان يحضر دورة للكيمياء في “فيينا” حتي تم استدعاءه للعودة إلى “أوديسا” لحضور جنازة والدته و خلال مراسم دفنها و بحسب روايته كشف له عمه أنه كان نتاج علاقة غرامية بين والدته و طبيب يهودي كان يعالجها و يدعي “روزنبلوم” .
و نتيجة خجله من تلك القصة أتخذ ” جورجي ” لقب الطبيب و تظاهر أنه توفي في ميناء “أوديسا” و أختبأ داخل سفينة متجهة إلى أمريكا الجنوبية و هناك أدعى أنه أنقذ ثلاثة ضباط بريطانيين في رحلة إستكشافية داخل منطقة نهر الأمازون و بسبب تلك المزاعم فتح له الطريق للذهاب إلي “إنجلترا” و رغم واقعية ذلك السرد الا أنه من الوارد جدا أن تكون كلها كاذبة لأنه لا توجد سجلات تثبت إدعاءاته كما تشير الأدلة الحديثة إلى أن الدكتور “روزنبلوم” لم يكن سوى عم ” سيدني رايلي ” نفسه و في عام 1892 حدثت إضطرابات طلابية في “أوديسا” كان من الواضح أنه متورطا بها و لذلك هرب إلى “باريس” هربًا من “الأوخرانا” و هي الشرطة السرية القيصرية و كانت إقامته في ” فرنسا ” قصيرة بسبب الإشتباه بأنه وراء قتل أحد الأناركيين من أجل سلبه مبلغًا كبيرًا من المال حيث أنطلق إلي ” إنجلترا ” عام 1895 و أستغل جيدا الأموال التى سرقها في إنشاء مصنع في “لندن” .
و خلال وجود ” سيدني رايلي ” لفتت شخصيته إنتباه “ويليام ميلفيل” رئيس الفرع الخاص لوحدة الاستخبارات المخصصة لشرطة العاصمة بسبب علاقاته و تكوينه لشبكة واسعة من الإتصالات بين المهاجرين اليهود الروس و الأوروبيين لذلك كان يعتبر بالنسبة له مصدر لا يقدر بثمن للمعلومات حول السياسات الراديكالية و الثورية و في عام 1897 ألتقى الجاسوس الناشئ بـ “مارجريت توماس” البالغة من العمر 24 عامًا و تودد لها ثم ساعدها على الأرجح في قتل زوجها النائب الذى كان يبلغ من العمر 63 عامًا و مصابًا بمرض “برايت” ثم تزوجا في العام التالي و الغريب فى الأمر أن شرطة العاصمة لم تحقق فى تلك الجريمة لأسباب غير معروفة رغم وجود العديد من الظواهر المثيرة للشكوك حول الزوجين الجديدين و لكن سرعان ما حصل ” روزنبلوم ” على جواز سفر بريطاني جديد ينص على أنه ولد في “أيرلندا” بإسم “سيدني رايلي” حيث ساعدته تلك الهوية الجديدة علي العودة إلى “روسيا” بأمان .
و خلال وجوده علي الأراضي الروسية لم يكن ” سيدني رايلي ” جيدا في إدارة أمواله بعد أن بدد الكثير من ثروة زوجته فى ألعاب القمار و يبدو أنه تحول إلى نشاط التزوير و تفنن فى تزييف عملات الروبل الروسي لإعالة نفسه و بحلول صيف عام 1899 و بعد إقتراب الشرطة من القبض عليه هرب هو و زوجته إلي ميناء ” بورت أرثر ” أحد أكبر الموانئ الروسية علي المحيط الهادئ و تعرف علي الجاسوس ” مويسي أكيموفيتش جينسبرج ” و أنضم إلي شبكته و علي مدى السنوات الأربع التالية كان ” سيدني رايلي ” يقوم بدراسة ظروف و سياسات المنطقة و عندما إندلعت الحرب بين “روسيا” و “اليابان” و بعد نجاح الأخيرة في إجتياح ميناء ” بورت أرثر ” كان دوره غامضا في ذلك و أعتبر أحد الألغاز التي لم يتم حلها بشأن الحرب الروسية اليابانية حيث كان من المعروف أنه و شريكه تمكنوا من سرقة خطط الدفاع الروسية و أن الأضواء الكاشفة الروسية أطفأت بشكل غامض عندما أبحر الأسطول الياباني إلى الميناء في يوم 8 فبراير عام 1904 و بعد مرور شهرين فقط قصفت القوات اليابانية بقايا الأسطول الروسي و سحق وجودهم في “الصين” و في ذلك الوقت اختفي “سيدني رايلي” مرة أخرى .
و بحلول عام 1918 عاد ” سيدني رايلي ” إلى التجسس مجددا عندما التقى بالسير “مانسفيلد سميث كومينج” أحد أقدم الرؤساء و أكثرهم نفوذاً في جهاز المخابرات السرية التابع لمكتب الخدمة السرية البريطاني المعروف اليوم بإسم MI6 و نظرا لأن الإستخبارات البريطانية لن تقبل بإنضمام ” رايلي ” الا بعد أن يكون ظابطا فقد أنضم على الفور إلى سلاح الطيران الملكي فى “كندا” و أبحر منها إلى “لندن” و فى تلك الأثناء كان ” مانسفيلد كومينج ” مكلف بتعطيل الثورة الروسية و خنقها في مهدها كما قال “وينستون تشرشل” في ذلك العام و علي الرغم من إعتراف ” كومينج ” بمهارات ” سيدني رايلي ” الا أنه كان لا يزال متشككا فيه حيث كتب في يومياته بعد أن ألتقي به لأول مرة أنه شخص ذكي جدا و موجودا في كل مكان و يفعل كل شئ لكنه مشكوك فيه أيضا لذلك فهو يقوم بمقامرة كبيرة بأن يجعله يلتقي بجميع رجاله في مدن فولوجدا و كييف و موسكو و غيرها .
و في أقل من شهر كان ” سيدني رايلي ” علي الأراضي الروسية ينسق الأنشطة المناهضة للبلشفية في “موسكو” كما كانت لديه خطط لإثارة تمرد مسلح ضد حكومة “فلاديمير لينين” و تنصيب “بوريس سافينكوف” الذى كان وزير دولة سابق ليكون على رأس نظام مضاد للثورة و لكن تم تدمير ذلك المخطط بسبب محاولة امرأة شابة إطلاق النار على “لينين” و أكتشفت الشرطة السرية تلك المؤامرة و بدأت حملة القمع الوحشية المعروفة باسم الإرهاب الأحمر و التي قُتل فيها الآلاف من المعارضين للثورة المشتبه بهم و بمجرد وصول أخبار المؤامرة إلى الصحافة تم تشويه سمعة “رايلي” و إعتباره المتآمر الرئيسي و حُكم عليه بالإعدام غيابياً و تبع ذلك مطاردة له و لكن بحلول الوقت الذي وصلت فيه الشرطة السرية إلى شقته في “سان بطرسبرج” كان قد أختفى مرة أخرى .
و فور عودته إلى “إنجلترا” أُعيد ” سيدني رايلي ” إلى “روسيا” مجددا في نوفمبر عام 1918 لدعم الجيوش البيضاء الملكية و أنضم إلى طاقم الجنرال “أنطون دينيكين” أحد أنجح القادة البيض و لكن عندما بدا من الواضح أن مهمة “دينيكين” أصبحت تبدو فاشلة طلب منه أن يعود إلي ” إنجلترا ” في فبراير عام 1919 لأن إقامته أصبحت مضيعة للوقت و عاد إلى “لندن” و تسلم وسام الصليب العسكري ثم سافر إلى مدينة “نيويورك” فى ” الولايات المتحدة ” و في السنوات التي تلت ذلك نجح في جذب المستثمرين لمخطط مدروس للإستثمار في “روسيا” ما بعد البلشفية و تزوج من ممثلة شابة اسمها “بيبيتا بوباديلا” و التى قالت عنه أنه “الزوج المثالي” و رغم كل ذلك كان ” سيدني رايلي ” يتوق للعودة إلى “روسيا” و رأي فرصته فى ذلك أثناء شهر سبتمبر عام 1925 عندما ألتقى بمجموعة من المنفيين البيض في “باريس” و طلبوا منه الذهاب إلي ” روسيا ” لدعم مجموعة أدعت أنها ملكية لكنه لم يكن يدرك أنها كانت بالأساس خطة وضعتها المخابرات السوفيتية KGB لتكون كمينا للإيقاع به لذلك و بمجرد وصوله إلي أراضي الإتحاد السوفيتي تم إعتقاله علي الفور .
أقرأ أيضا : كيم فيلبي الجاسوس السوفيتي الذى أستطاع تقلد منصب مدير مكافحة الأنشطة السوفيتية
وعلى الرغم من أن ” سيدني رايلي ” لم يتعرض للتعذيب إلا أنه تعرض لإعدام وهمي و هي تجربة أرعبته بدرجة كافية للتوقيع على إعتراف بكل أنشطته السابقة و في يوم 5 نوفمبر عام 1925 تم وضع الجاسوس داخل كيس و شحنه إلي شرق “موسكو” حيث أطلق عليه الرصاص على قارعة الطريق و تنتهي بذلك حياة أحد أساطير عالم الجاسوسية و بعد مرور 20 عامًا من إعدامه كان ضابطًا بحريًا شابًا يُدعى “إيان فليمنج” يعمل في إدارة المخابرات البحرية البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية و أثناء عمله في نوبات تنسيق تجسس الحلفاء في أوروبا المحتلة وجد “فليمنج” وقتًا للقراءة عن مآثر جاسوس يحمل الاسم الرمزي “ST1″ في الأرشيف و الذي لم يكن سوي ” سيدني رايلي ” حيث تأثر بحياته كثيرا و خلدها فى شخصيته الشهيرة “جيمس بوند” و بعد سنوات أعترف فليمنج لصديق له أن مغامرات بطله كانت إلى حد كبير تلك التي قام بها “رايلي” ثم أستدرك بعد ذلك قائلا أن “بوند” هو مجرد قطعة من الهراء كان يحلم بها و أنه ليس “سيدني رايلي” .
و حني الأن و علي الرغم من مرور قرن تقريبا علي وفاته الا أنه لا يزال من الصعب تمييز حقيقة حياة “سيدني رايلي” نتيجة كثرة الأكاذيب التي قالها عنها و مع ذلك ظلت سمعته قوية بين أعضاء مجتمع المخابرات .
.