حرب الثلاثين عام هي صراع ديني حدث في القرن السابع عشر خلال الفترة ما بين أعوام 1618 و حتي 1648 و دارت بشكل رئيسي في وسط أوروبا و تُعتبر واحدة من أطول و أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية بعد أن تسببت في مقتل أكثر من 8 ملايين شخص سواء بسبب المعارك العسكرية أو المجاعات أو الأمراض الناتجة عن ذلك الصراع الذي بدء كصدام بين الدول الكاثوليكية و البروتستانتية التي كانت تشكل الإمبراطورية الرومانية المقدسة و مع تطورها أصبحت أقل إرتباطًا بالدين و أكثر تركيزًا علي السيطرة السياسية علي أوروبا التي شهدت عقب إنتهائها تغير كبير في خريطتها الجيوسياسية .
بدأت حرب الثلاثين عام مع صعود الإمبراطور ” فرديناند الثاني ” إلي رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة عام 1619 و حينها بدأت التوترات الدينية في التصاعد بعد أن كان أحد أول إجراءاته هي إجبار مواطني الإمبراطورية علي إعتناق الكاثوليكية الرومانية علي الرغم من أن حرية الدين كانت مكفولة للجميع بموجب صلح أوجسبورج الذي تم توقيعه عام 1555 كحجر أساس للإصلاح البروتستانتي و هو ما سمح لأمراء الولايات داخل الإمبراطورية بإختيار إما المسيحية اللوثرية/الكالفينية أو الكاثوليكية داخل مناطقهم و هو ما أسهم بشكل كبير في هدوء التوترات بين أتباع الديانتين داخل الإمبراطورية لأكثر من 60 عامًا رغم إندلاع بعض من الصراعات مثل حرب كولونيا (1583-1588) و حرب خلافة يوليش (1609) إضافة إلي أن الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي كانت تسيطر علي جزء كبير من أوروبا عبارة عن مجموعة من الولايات شبه المستقلة و كان للإمبراطور من عائلة هابسبورج سلطة محدودة علي حكم هذه الولايات .
و عقب إصدار مرسوم ” فرديناند الثاني ” بشأن الدين رفضت النخبة البوهيمية ( في ما يعرف الآن بدول النمسا و جمهورية التشيك ) تلك القرارات و أظهرت إستياءها منها من خلال إلقاء ممثلي الإمبراطور من نافذة قلعة براغ عام 1618 حيث عرف ذلك الحادث بإسم ” إلقاء ممثلي الإمبراطور من النافذة في براغ ” و الذي كان ردًا منهم علي قرار ” فرديناند الثاني ” بسلب حريتهم الدينية و كان ذلك إيذانا ببداية التمرد العلني داخل الولايات البوهيمية التي حظيت بدعم من ممالك السويد و الدانمارك و النرويج و هو ما أدي إلي إندلاع حرب الثلاثين عام بعد أن قررت الولايات البوهيمية البروتستانتية في الشمال الإنفصال عن الإمبراطورية و هو ما زاد من تفككها رغم أنها كانت فعليا ضعيفة التنظيم .
و بدأت المرحلة الأولي من حرب الثلاثين عام و المعروفة بإسم ” التمرد البوهيمي ” عام 1618م و كانت بداية صراع قاري حقيقي لأنه علي مدار العقد الأول من القتال شكلت النخبة البوهيمية تحالفات مع دول الإتحاد البروتستانتي في ألمانيا الحالية بينما سعى ” فرديناند الثاني ” للحصول علي دعم إبن أخيه الكاثوليكي الملك ” فيليب الرابع ” ملك ” إسبانيا ” و سرعان ما انخرطت جيوش الطرفين في حرب دموية علي جبهات متعددة في ” النمسا ” الحالية و في الشرق في ترانسيلفانيا حيث قاتل جنود الإمبراطورية العثمانية إلي جانب البوهيميين مقابل مدفوعات سنوية للسلطان ضد البولنديين الذين كانوا في صف آل هايسبورج أما في الغرب فتحالفت الجيوش الإسبانية مع ما يُعرف بالعصبة الكاثوليكية و هي ولايات في ” ألمانيا ” و ” بلجيكا ” التي دعمت ” فرديناند الثاني ” .
و في البداية حققت قوات ” فرديناند الثاني ” نجاحات كبيرة بعد أن قمعت التمرد في الشرق و شمال النمسا مما أدي إلي حل الإتحاد البروتستانتي و مع ذلك استمر القتال في الغرب حيث دعم ” كريستيان الرابع ” ملك الدانمارك و النرويج الولايات البروتستانتية إلا أنها سقطت أمام قوات ” فرديناند الثاني ” رغم حصولهم علي مساعدة من الجنود الأسكتلنديين و نتج عن ذلك تنازلهم عن جزء كبير من شمال أوروبا للإمبراطور و لكن في عام 1630 دخلت ” السويد ” بقيادة ” جوستافوس أدولفوس ” الحرب إلي جانب البروتستانت الشماليين و ساعد جيشها في دفع القوات الكاثوليكية للتراجع و إستعادة الكثير من الأراضي التي فقدها الإتحاد البروتستانتي و مع إستمرار دعم السويديين تواصلت إنتصارات البروتستانت حتي قُتل ” جوستافوس أدولفوس ” في معركة لوتزن عام 1632 و هو ما أدي إلي فقدان السويدين لبعض من عزمهم علي القتال .
و رغم توالي إنتصارات البروتستانيين إلا أنه بدأت القوات الكاثوليكية في الرد بعد الحصول علي المساعدة العسكرية من النبيل البوهيمي ” ألبرشت فون فالنشتاين ” الذي قدم جيشه المكون من حوالي 50,000 جندي لفرديناند الثاني مقابل حرية نهب الأراضي المحتلة و بحلول عام 1635 تم هزيمة السويديين و إجبارهم التوقيع علي معاهدة تُعرف بصلح براغ التي حمت أراضي الحكام اللوثريين/الكالفينيين في شمال شرق ” ألمانيا ” لكنها لم تشمل أراضي الجنوب و الغرب في ” النمسا ” و جمهورية التشيك الحالية و التي مع إستمرار التوترات الدينية و السياسية في تلك المناطق إستمر القتال.
و بالنسبة إلي الفرنسيين فرغم أنهم كانوا كاثوليك إلا أنهم كانوا أعداء لآل هابسبورج و لم يكونوا راضين عن بنود صلح براغ و لذلك دخلت ” فرنسا ” الصراع عام 1635 و في البداية لم تتمكن جيوشها من تحقيق تقدم ضد قوات ” فرديناند الثاني ” حتى بعد وفاته بسبب الشيخوخة عام 1637 و في نفس الوقت شنت ” إسبانيا ” التي كانت تقاتل نيابة عن خليفة ” فرديناند الثاني ” و إبنه ” فرديناند الثالث ” هجمات مضادة و غزت الأراضي الفرنسية مهددة باريس عام 1636 و لكن سرعان ما تعافت ” فرنسا ” و إستمر القتال بين التحالف الفرنسي-البروتستانتي و قوات ” إسبانيا ” و الإمبراطورية الرومانية المقدسة لعدة سنوات و بحلول عام 1640 بدأ البرتغاليين في التمرد ضد حكامهم الإسبان مما أضعف الجهود العسكرية الإسبانية لصالح الإمبراطورية الرومانية المقدسة و بعد عامين عاد السويديين إلي ساحة المعركة و هو ما زاد من إضعاف قوات هابسبورج .
و بحلول عام 1643 حدث تحول محوري في حرب الثلاثين عام حيث عادت مملكة الدانمارك-النرويج إلي حمل السلاح مجددا و لكن هذه المرة إلي جانب هابسبورج و الإمبراطورية الرومانية المقدسة و في نفس الوقت تقريبًا توفي الملك الفرنسي ” لويس الثالث عشر ” تاركًا العرش لإبنه البالغ من العمر 5 سنوات ” لويس الرابع عشر ” مما خلق فراغًا في القيادة بباريس و علي مدار السنوات التالية حققت الجيوش الفرنسية عدة إنتصارات ملحوظة لكنها عانت أيضًا من هزائم كبيرة خاصة في معركة هيربستهاوزن عام 1645 و في نفس العام هاجم السويديين مدينة ” فيينا ” لكنهم لم يتمكنوا من الإستيلاء عليها و في عام 1647 تمكنت قوات هابسبورج بقيادة ” أوكتافيو بيكولوميني ” من صد السويديين و الفرنسيين من ” النمسا ” الحالية و في العام التالي أثناء معركة براغ و التي كانت آخر معركة كبيرة في حرب الثلاثين عام إستولى السويديين علي قلعة براغ من قوات الإمبراطورية الرومانية المقدسة لكنهم لم يتمكنوا من السيطرة علي معظم المدينة .
و علي مدار عام 1648 وقعت الأطراف المختلفة في الصراع سلسلة من المعاهدات تُعرف بصلح وستفاليا و هو ما أنهي حرب الثلاثين عام التي تركت ورائها تأثيرات جيوسياسية كبيرة علي قارة أوروبا فعلي سبيل المثال أضعفت الحرب ” إسبانيا ” التي فقدت سيطرتها علي ” البرتغال ” و ” هولندا ” كما منحت معاهدات السلام إستقلالية أكبر للولايات السابقة الناطقة بالألمانية في الإمبراطورية الرومانية المقدسة كما يعتقد المؤرخين أن ذلك الصلح وضع الأساس لتشكيل الدول القومية الحديثة حيث وضع حدودًا ثابتة للدول التي شاركت في الصراع و نص علي أن سكان الدولة يخضعون لقوانين تلك الدولة و ليس لأي مؤسسة أخرى سواء كانت دينية أو علمانية و هو ما أدي إلي تقليل نفوذ الكنيسة الكاثوليكية في الشؤون السياسية و كذلك نفوذ الجماعات الدينية الأخرى .
و إنتهت حرب الثلاثين عام بعد أن شهدت معارك ضارية و أسفرت عن مقتل مئات الألاف بسبب الأعمال القتالية و المجاعات و كذلك بسبب وباء التيفوس الذي إنتشر بسرعة في المناطق التي دمرتها الحرب كما يعتقد المؤرخين أن أولي عمليات صيد الساحرات في أوروبا بدأت خلال تلك الحرب بعد أن أرجعت المجتمعات تلك المعاناة التي يمرون بها إلى أسباب “روحية” بالإضافة إلي أن حرب الثلاثين عام عززت الخوف من “الآخر” داخل المجتمعات الأوروبية و هو ما زاد من عدم الثقة بين الأشخاص الذين ينحدرون من أعراق أو دول مختلفة و هي مشاعر لا تزال موجودة إلي حد ما حتى يومنا الراهن .