لطالما أثارت ظاهرة أكلي لحوم البشر جدلاً واسعاً عبر التاريخ إذ تُعتبر واحدة من أقدم العادات و أكثرها رعبا و إشمئزازا و علي الرغم من تواجد تلك الظاهرة في عدد من الثقافات إلا أنها أخذت شكلا مختلفا و فريدا من نوعه في تاريخ الدولة الدولة الصفوية نتيجة تأثرها بالأفكار الدينية و السياسية فمع بداية القرن السادس عشر كانت الإمبراطورية الصفوية الصاعدة تتوسع بقوة تحت حكم الشاه إسماعيل الأول الذي إعتمد علي ولاء أتباعه المخلصين من القزلباش في توطيد سلطته و هي طائفة قالت عنها العديد من المصادر التاريخية أنهم كانوا من أكلي لحوم البشر و إتخذوا تلك العادة الغريبة للتعبير عن إخلاصهم المطلق للشاه و التأكيد علي الإيمان بقدسيته .
و القزلباش كلمة محلية تعني “الرؤوس الحمراء” و أطلقت علي تلك الطائفة نسبة إلي العمائم الحمراء التي كانوا يرتدونها و هم جماعة من أتباع الطائفة الصوفية التي أسسها الشيخ ” صفي الدين الأردبيلي ” جد الشاه إسماعيل و كانوا مجموعة من المحاربين الأوفياء المنحدرين غالباً من أصول تركية و ساهموا بشكل أساسي في صعود الدولة الصفوية و دعمها و تميزوا بولائهم العميق للشاه إذ كانوا يرونه مرشداً روحياً و حاكماً سماوياً و إعتقدوا بأنه يمتلك قدرات خارقة تتجاوز إمكانيات البشر و نتيجة هذا الإيمان الشديد فقد خلق نوعاً من العلاقة المتطرفة بين القائد و أتباعه وصلت إلي حد تنفيذهم لأوامر غير مألوفة بغرض التعبير عن إخلاصهم المطلق .
و فيما يخص أكلهم للحوم البشر فقد وردت في المصادر التاريخية روايات متعددة عن قيام القزلباش بأكل جثث أعداء الشاه إسماعيل و وفقاً لهذه المصادر تم تسجيل حادثتين بارزتين الأولى في عام 1504 عقب هزيمة قائد محلي يُدعى “حسين كيا شولافي” و الثانية في عام 1510 بعد هزيمة القائد الأوزبكي “شيبان خان” و في كلا الحادثين كان القزلباش يتجمعون حول جثة العدو المقتول و يقومون بتناول أجزاء من جسده بناءً علي أوامر الشاه إسماعيل كنوع من إثبات الولاء المطلق له و كان الهدف من هذا الفعل وفقاً للتفسيرات ليس لمجرد الوحشية أو الإنتقام بقدر ما كان طقساً رمزياً يؤكد الولاء المطلق و يثير الخوف في قلوب أعداء الشاه .
و بالنظر إلي ظاهرة أكل لحوم البشر التي قام بها القزلباش يجد المؤرخين أنها تحمل عدة دلالات اجتماعية و دينية و سياسية فإجتماعيا لم يعتبر طقس أكل لحوم البشر متكرراً أو منتظماً بل كان إستجابة خاصة لأوامر الشاه في مناسبات محددة مما يشير إلى أن الهدف منه هو إبراز الولاء المتطرف لقائدهم و تعميق إرتباطهم الروحي به و من الناحية الدينية كان القزلباش يعتبرون الشاه مرشداً سماوياً لذلك كان تناول جثث أعدائه تعبيراً عن إتحادهم به كقائد مقدس أما من الناحية السياسية فحملت هذه الظاهرة رسالة رادعة للأعداء كدلالة قوية علي قسوتهم و إستعدادهم لفعل أي شيء من أجل قائدهم و هو ما عزز من سمعتهم كمحاربين لا يعرفون الرحمة و معبرين عن وفائهم بأبشع الطرق الممكنة أما بالنسبة للأعداء كانت هذه الطقوس بمثابة تحذير قوي من مدى التماسك و التضحية التي يتحلي بها أتباع الشاه و هو ما جعل القزلباش يتمتعون بسمعة مرعبة عززت من قوة الدولة الصفوية و حدت من أعدائها .
و مع مرور الوقت و تغير الديناميكيات السياسية داخل الدولة الصفوية تراجعت هذه الطقوس و تغيرت الأساليب التعبيرية للولاء فمع تطور الدولة الصفوية و نموها كإمبراطورية واسعة لم يعد الشاه يعتمد فقط علي القزلباش بل بدأ في بناء جهاز حكومي مركزي يعتمد علي ولاءات متعددة و قد تزامن هذا مع تراجع مكانة القزلباش في البلاط خاصة في عهد الشاه عباس الأول الذي أعاد تشكيل السلطة بشكل جعل الولاءات تعتمد أكثر علي الوظائف و البروتوكولات الرسمية بدلاً من الطقوس الغريبة و التطرف في إظهارها .
إقرأ أيضا : ليوناردا تشيانشيولي .. السفاحة الإيطالية التي حولت ضحاياها إلي صابون و بسكويت
و تظهر بعض التحليلات التاريخية أن ظاهرة أكل لحوم البشر لدي القزلباش لم يكن طقساً متوارثاً أو تقليدياً بل كان مرتبطاً بشكل خاص بظروف صعود الدولة الصفوية و بالحاجة إلى إثبات الولاء في مجتمع يشهد صراعات علي السلطة و عليه فإن أكل لحوم البشر في عهد الشاه إسماعيل لا يعكس بالضرورة جزءاً من الثقافة التركمانية أو تقاليدهم بل كان فعلاً مرتبطاً بشخصية الشاه إسماعيل و دوره كمؤسس للدولة الصفوية .