بدون أى شك فإن القنبلة الذرية التى ألقيت على مدينتى هيروشيما و ناجازاكى فى اليابان هى من كان لها القول الفصل بوضع كلمة النهاية فى الحرب العالمية الثانية و ميلاد الولايات المتحدة كدولة عظمى و مالكة لأقوى الأسلحة فتكا على وجه الأرض و لكن ما لا يعرفه الكثيرين ان ألمانيا النازية كانت تمضى قدما هى الأخرى فى أبحاثها النووية الخاصة بها و على بعد خطوات قصيرة لامتلاك سلاحها الذرى و التى لولا تعطلها فى احدى الخطوات لربما أصبحت مدينتى لندن أو نيويورك هى من كانت تعاني من ويلات ذلك السلاح و حدث تغير نوعى فى مجريات الحرب تماما و بالتالى طبيعة العالم الذى نعيش فيه حاليا حيث يرجع الفضل فى تعطيل قنبلة هتلر الذرية الى احدى العمليات الإستخبارية التى أطلق عليها اسم العملية جانرسايد و كانت أحد الأسباب فى وضع حدا للبرنامج النووى الألمانى .
فمع حلول شهر أبريل عام 1939 بدأت “ألمانيا” برنامجًا سريًا أطلق عليه اسم “نادي اليورانيوم” و من خلاله تم تجنيد بعض من أفضل العقول العلمية في البلاد بما في ذلك الحائز على جائزة نوبل مؤخرًا “فيرنر هايزنبرج ” و كان البرنامج تحت إشراف الفيزيائي “كورت ديبنر” و على عكس نظرائهم الأمريكيين قرر الألمان استخدام الماء الثقيل كوسيط بدلاً من الجرافيت داخل المفاعل النووي حيث ترجع أهمية ذلك العنصر الوسيط فى إبطاء قصف النيوترونات و التحكم في عملية الانشطار و بهذه الطريقة يقوم بالحفاظ على تفاعل متسلسل و كان الألمان يأملون في استخدام الماء الثقيل لهذا الغرض و مع ذلك لم يتمكنوا أبدًا من تحقيق تفاعل متسلسل ناجح حيث يرجع ذلك الفشل جزئيًا بسبب الفعالية المحدودة للماء الثقيل مقارنة بالجرافيت و لكنه نتجت تلك المشكلة بشكل عام نتيجة نقص التنسيق و الدعم لبرنامج القنبلة الذرية الألماني بين العلماء و الحكومة و الجيش .
و بعد الغزو الألماني للنرويج في أبريل عام 1940 قاموا بالسيطرة على مصنع “فيمورك نورسك ” و الذى صمم في الأصل لاستخدام المياه الجبلية للتحليل الكهربائي لإنتاج الأمونيا المستخدمة فى الأسمدة النيتروجينية و يصبح لاحقا أول موقع إنتاج للمياه الثقيلة في العالم بعد تعاون حدث عام 1933 بين “ليف ترونستاد” أستاذ الكيمياء في جامعة “تروندهايم” و “جومار برون” رئيس المصنع لتصميم مرافق إنتاج الماء الثقيل و بحلول يناير عام 1935 بدأ المصنع فى انتاج أكثر من 100 جرام من الماء الثقيل ثم بدأت تزداد الكميات تباعا و نتيجة لذلك فبعد وضع المصنع تحت السيطرة الألمانية قاموا بإجبار عماله على زيادة إنتاج الماء الثقيل حيث وصلت إنتاجيته الى أربعة كيلوجرامات يوميا بحلول نهاية عام 1941 .
فى تلك الأثناء تلقت المخابرات البريطانية معلومات من المقاومة النرويجية السرية عن رغبة الألمان في زيادة إنتاج المصنع من الماء الثقيل خلال صيف عام 1941 حيث كان من حصل على تلك المعلومات هو أستاذ الكيمياء ” ليف ترونستاد ” و الذى أصبح واحدا من أفراد المقاومة النرويجية من خلال صلاته بالعمال فى المصنع حيث كان تقدير البريطانيين ان انتاج ذلك المعدل من الماء الثقيل من المؤكد أنه سيكون بغرض استخدامه فى مفاعل نووى و وجود برنامج لقنبلة ذرية ألماني و هو ما جعل البريطانيين يخططون لاجراء غارات تخريبية على ذلك المصنع من قبل الكوماندوز النرويجي الذي ترعاه بريطانيا و للاستعداد الى ذلك و لتجنب القاء القبض عليه من قبل “الجستابو” هرب “ترونستاد” إلى “السويد” و منها لبريطانيا و نظرًا لمعلوماته القيمة حول إنتاج الألمان للماء الثقيل و خلفيته في الكيمياء و الاستخبارات النرويجية قرر البريطانيين المحافظة عليه و عدم التفريط فيه و استبعاده من الانضمام إلى الفرق الميدانية و عُين بدلاً من ذلك قائدًا لتدريب وحدات الكوماندوز على عمليات التخريب في “النرويج” حيث كان لدى البريطانيين خبرة كبيرة فى تلك الاعمال خلال زمن الحرب و لديها وحدة سرية تسمى تنفيذ العمليات الخاصة (SOE) يتبعه فرع نرويجى لتلك الوحدة يُعرف باسم ” لينج ” كان يقوم بتجنيد النرويجيين الذين فروا إلى “إنجلترا” بعد الغزو الألماني حيث كانوا يقومون تدريبات مرهقة بـ”اسكتلندا” فى المملكة المتحدة تضمنت تدريبات ليلية مثل تسلق الجبال و عبور الأنهار و التخييم في الهواء الطلق لأسابيع .
و من أجل التحضير لمهمتهم المستقبلية في مصنع ” فيمورك ” كان على المتدربين أن يخضعوا لنوع من تدريبات القوات الخاصة نظرا الى أن ذلك المصنع كان فى حد ذاته بمثابة قلعة طبيعية حيث كان محاطًا بهضبة جبلية عالية تحيط بها بيئة باردة للغاية لدرجة أن البعض يقول أنها تجمد اللهب في النار و نتيجة معرفته بالمصنع و الأرض و المناخ لجأ البريطانين إلى ” ترونستاد ” و وحدة المقاومة ” لينج ” للتدخل لمحاولة وقف إنتاج الألمان للمياه الثقيلة بداخله و في أكتوبر عام 1942 بدأت المحاولة الأولى للتسلل إلى المصنع بعمليتى ” جروز ” و ” فريشمان ” على الرغم من تفضيل الأمريكيين بأن يتم قصفه و هو ما عارضه “ترونستاد” بشدة لسببين أولهم لأنه اذا أصابت القنابل صهاريج تخزين الأمونيا السائلة في المجمع الكيميائي بالمصنع فإن السكان المدنيين في تلك المنطقة معرضون للخطر و ثانيًا أن منشآت الماء الثقيل كان يتم وضعها في قبو المحطة تحت طبقات من الخرسانة و المعدن و بالتالي لن يؤدي القصف بالضرورة إلى تدميرها لذلك كان الحل الوحيد هو المهمات التخريبية .
و بدأت المرحلة الأولى من المهمة بهبوط فريق كشفي صغير من النرويجيين يُطلق عليهم الاسم الرمزي ” جروز ” بالمظلات في المنطقة المحيطة بالمصنع لجمع المعلومات و الاستعداد لقدوم مجموعة الهجوم و في نوفمبر 1942 بدأت عملية ” فريشمان ” المكملة لها بوصول مجموعة مكونة من 39 جنديًا بريطانيًا حيث كان من المفترض أن يهبط هؤلاء الجنود المحملين على طائرتين شراعيتين عسكريتين بالقرب من المصنع بتوجيه من مجموعة ” جروز ” ثم يغيرون عليه سويا و مع ذلك نتيجة سوء الأحوال الجوية و حدوث مشاكل فى الاتصالات فقد حالت تلك الامور دون سير المهمة كما هو مخطط لها بعد أن اصطدمت إحدى الطائرتين بجبل بينما تحطمت الأخرى بعيدًا عن موقع الهبوط المستهدف و مات جميع الرجال في الطائرة الشراعية التي اصطدمت بالجبل من جراء الاصطدام بينما توفي بعض الجنود على الطائرة الشراعية الثانية في الحادث و تم إعدام الآخرين من قبل “الجستابو” و على الرغم من أنهم عثروا على خريطة حددت المصنع كهدف بريطاني إلا أن الألمان لم يتمكنوا من العثور على مجموعة ” جروز ” التي كانت لا تزال في المنطقة و القبض عليها حيث ظلت باقية في البرية بإمداداتها المحدودة و أُجبرت على العيش فى تلك الأجواء القاسيه من خلال صيد الرنة حيث أثبتت تلك المجموعة التي أعيدت تسميتها الى ” سوالو ” أنها جزء لا يتجزأ من المهمة الثانية و التى ستكون “العملية جانرسايد ” .
و بعد مرور ثلاثة أشهر من المحاولة الفاشلة الأولى تلقت مجموعة ” سوالو ” تعليمات من “بريطانيا” تفيد بأنه سيتم إرسال مجموعة جديدة إلى منطقة ” روجوكان ” من أجل تنفيذ “العملية جانرسايد” و التى على عكس عملية ” فريشمان ” كانت مجموعة من الكوماندوز النرويجيين بقيادة “يواكيم رونبيرج ” و الذين هبطوا بالمظلات إلى المنطقة المستهدفة التمركز فيها بدلاً من استخدام طائرة شراعية كما حدث من قبل حيث كان التخطيط أنه يجب اظهار ان البريطانيين هم من وراء تلك العملية لأنه إذا تم إلقاء اللوم عليهم في ذلك التخريب بدلاً من المقاومة النرويجية فسيكون السكان المحليون أقل عرضة لمواجهة أى تداعيات ألمانية و نجحت المجموعة فى الهبوط على بعد كيلومترات من الموقع المستهدف و بعد السفر لمدة خمسة أيام تقريبًا أنضمت مجموعة “العملية جانرسايد” بمجموعة ” سوالو ” .
و في وقت متأخر من مساء يوم 27 من فبراير عام 1943 بدأت مجموعة ” العملية جانرسايد ” فى الاغارة على مصنع ” فيمورك ” حيث كان هناك ثلاث طرق يمكن الوصول اليها للمصنع أولها من خلال النزول من الجبال فوقه و هى كانت منطقة مغطاة بحقول الألغام و ثانيها من خلال عبور جسر معلق ذو حارة واحدة و شديد الحراسة و ثالثهم عبر السفر إلى أسفل مضيق و عبور نهر نصف متجمد ثم تسلق منحدر ارتفاعه 152 متر حيث صوتت المجموعة على الطريق التالت و الذى اجبرهم على المضى قدما فى طريق بجانب خط سكة حديد غير خاضع للحراسة نسبيًا و عند وصولهم الى حدود المصنع عبروا سياج البوابة من خلال استخدام قواطع للمعادن خاصة تتميز بعدم احداثها كثير من الضجيج لتنبيه الحراس النازيين و بعد اجتيازه انقسمت المجموعة إلى مجموعتين واحدة للاغارة مكونة من أربعة أفراد و مجموعة أخرى مكونة من خمسة أفراد كفرقة تغطية حيث قامت مجموعة الاغارة بمحاولة الدخول إلى المصنع من خلال باب جانبي الا انهم وجدوه مغلق ليحاولوا الولوج خلال نفق و بمجرد دخولهم الى المبنى بدأوا فى وضع العبوات الناسفة بجوار خلايا إنتاج الماء الثقيل و التى كانت قنابل زمنية من أجل توفير الوقت الكافي للهروب و بعد الانتهاء بدأت القوات فى الانسحاب و بدأت الانفجارات تتوالى و عرفت فرقة التغطية أن المهمة قد نجحت .
و بعد الفرار من المصنع و نجاح “العملية جانرسايد” و إعادة الاتصال بفرقة التغطية بدأت مجموعة الاغارة بالتزلج باتجاه ” راجوكان ” و بمجرد وصولهم إلى الهضبة الجبلية قاموا بقطع أكثر من 320 كيلومتر إلى “السويد” على الزلاجات بينما انتشرت مجموعة التغطية في جميع أنحاء الهضبة و على الرغم من بحث الألمان و مطاردتهم للمجموعة الا أنه لم يُقتل أو يُأسر أي من أعضائها و عند فحص الأضرار التي لحقت بمنشآت الماء الثقيل نتيجة ” العملية جانرسايد ” فقد تم تدمير منشأة ” فيمورك ” لإنتاج الماء الثقيل و الإمدادات و تسببت الغارة في فقد الألمان حوالي 500 كجم من الماء الثقيل و إيقاف تشغيل المصنع لبضعة أشهر و مع ذلك لم يكن نجاح المهمة ضربة قاضية لإنتاج الألمان من الماء الثقيل لأنه بحلول مايو عام 1943 أعيد بناء منشآت إنتاج الماء الثقيل و تشغيلها مرة أخرى حيث قررت “الولايات المتحدة” حينها قصف المصنع رغم أنه كان حل مستبعدا منذ البداية و في 16 من نوفمبر عام 1943 حلقت 140 قاذفة أمريكية فوق المنطقة و قصفته حيث تعرضت منشآت إنتاج الماء الثقيل لأضرار طفيفة و لكن نتيجة اعتقاد الألمان أن الهجمات على تلك المنشأة ستستمر على قرروا التوقف عن إنتاج الماء الثقيل بها و لسوء الحظ كان هناك 22 ضحية مدنية نرويجية في تلك الغارات و هى المأساة التي كان “ترونستاد” يأمل في تجنبها .
كما انتهت محاولة “ألمانيا” نهائيا لنقل إمدادات المياه الثقيلة من النرويج بالفشل على أيدي المخربين النرويجيين بعد أن صدرت أوامر بإغراق عبارة كانت تحمل بعضا منه إلى مراكز الأبحاث و في 20 من فبراير عام 1944 غرقت احدى العبارات الأخرى بسبب انفجار في مقدمتها و فقد الألمان إمداداتهم الأخيرة من الماء الثقيل من مصنع ” فيمورك ” حيث كان هناك أربعة قتلى ألمان و أربعة عشر نرويجيًا من جراء الانفجار .
أقرأ أيضا : العملية مينسميت .. الرجل الذى ساهمت وفاته فى خداع الألمان و تغيير مسار الحرب العالمية الثانية
و عند مناقشة ” العملية جانرسايد” يقلل بعض المؤلفين و المؤرخين من الأهمية المرتبطة بنجاح العملية بالنظر إلى أن المهمة أوقفت مؤقتًا فقط إنتاج الماء الثقيل بينما يرى البعض الاخر الى أنها تستحق الثناء لأنها كانت تشير إلى حقيقة أن الحلفاء لم يعرفوا المدى الذي قطعه الألمان في أبحاثهم و إنتاجهم لسلاح نووي و كل ما عرفوه هو أنهم كانوا مهتمين جدًا بالماء الثقيل و أنه يمكن استخدامه في مفاعل نووي كوسيط و هو ما دفع “الولايات المتحدة” الى الاسراع في مشروع مانهاتن حيث صرح “روبرت فورمان” الذي كان رئيس الاستخبارات الخارجية لذلك المشروع أنه بُني على أساس الخوف من امتلاك العدو للقنبلة أو امتلاكها قبل أن نتمكن من تطويرها و لكن على أى حال يجب الاعتراف بأن ” العملية جانرسايد ” تعتبر واحدة من أنجح مهام الحرب العالمية الثانية حيث لم تسفر عن أي إصابات و نجحت مؤقتًا في تدمير مصدر الألمان الوحيد للمياه الثقيلة في ذلك الوقت و في زمن الحرب من المعروف أن الوقت له ثمنه حيث علق “رونبيرج” قائد تلك الغارة لاحقًا بأن “لندن” كان من الممكن أن تعاني من مصير مختلف و ينتهي بها الأمر لتبدو مثل “هيروشيما” إذا فشل فريقه .