شهد العالم بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية تشكل نظام عالمي جديد أفضي إلي نوع أخر من الصراعات عرف بإسم الحرب الباردة التى أستمرت على مدار خمسين عاما بين خصمين كلاهما نوويين و هى الولايات المتحدة و الإتحاد السوفيتي و رغم تحاشي كل الطرفين الوقوع فى صدام مباشر مع الأخر إلا أنه كاد أن يحدث فى مطلع ستينيات القرن الماضي أثناء أزمة الصواريخ الكوبية التى حبس العالم أنفاسه فيها إنتظارا لوقع حرب نووية تبيد الأخضر و اليابس الا أنه و لحسن الحظ تم نزع فتيل الأزمة فى اللحظات الأخيرة و يرجع الفضل إلي ذلك لعقيد كان يعمل فى المخابرات العسكرية السوفيتية و فى نفس الوقت جاسوسا لأجهزة الإستخبارات الغربية و يدعي أوليج بينكوفسكي و الذى رغم خيانته لبلاده إلا أنها ساهمت بشكل كبير فى إنقاذ العالم من محرقة نووية وشيكة دفع ثمنها غاليا فى وقت لاحق .
ولد “أوليج فلاديميروفيتش بينكوفسكي” في 23 من أبريل عام 1919 بمدينة “فلاديكافكاز” في “روسيا” و توفي والده في نفس العام خلال خوضه القتال ضد الشيوعيين أثناء الثورة الروسية و رغم ذلك نشأ “أوليج بينكوفسكي” فى ظل الدولة الشيوعية و أنضم إلى الجيش الأحمر عام 1937 و خلال الحرب العالمية الثانية حارب كضابط مدفعية و أصيب فى إحدى المعارك عام 1944 و بعدها تم تسريحه من الجيش و التحق بأكاديمية فرونزي العسكرية الشهيرة ثم تخرج منها عام 1948 و أنضم على الفور إلى المخابرات العسكرية السوفيتية GRU التى كانت مسئولة فى البحث عن أي تهديدات خارجية و تجنيد العملاء فى كل مكان بالعالم بعكس جهاز المخابرات السوفيتية KGB التى كانت تركز بشكل مباشر علي سحق المعارضة الداخلية فى ذلك الوقت لذلك كانت مؤسسة الـ GRU ذات تأثير جيوسياسي أكبر .
و على مدار السنوات المتعاقبة ترقي ” أوليج بينكوفسكي ” داخل عمله فى الإستخبارات العسكرية السوفيتية و بحلول عام 1960 أصبح عقيدا داخل الجهاز و شغل منصب نائب رئيس القسم الأجنبي في لجنة الدولة لتنسيق البحث العلمي للعامين المقبلين حيث كانت وظيفته تنصب علي جمع و تقييم المعلومات التقنية و العلمية عن الغرب و خلال تلك الفترة كان يشعر بالإحباط و خيبة الأمل من بلاده دفعه إلي إتخاذ تصرف غريب و هو إرساله رسالة إلى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA عن طريق سائحين أمريكيين كتب فيها قائلا “أطلب منكم أن تعتبروني جنديًا لكم من الآن فصاعدا و سيتم رفع مرتبة قواتكم المسلحة عن طريق فضل رجل واحد ” .
كانت تلك رسالة غريبة بالنسبة للأمريكيين و لكن من كان له السبق فى التحرك لمحاولة الإستكشاف الأمر هى المخابرات البريطانية MI6 التى كانت تعمل بنشاط للتسلل إلى لجنة الاتحاد السوفيتي للعلوم و التكنولوجيا حيث تم تجنيد رجل أعمال بريطاني يدعي “جريفيل وين ” و تكليفه بمحاولة الإتصال بالظابط ” أوليج بينكوفسكي ” حيث كان ” وين ” يمتلك شركة تصدير لمنتجات الهندسة الصناعية و كانت غطاء ممتاز له ساعده كثيرا فى التنقل بين البلدان للتجسس و خلال إحدي رحلاته إلتقي بـ ” أوليج بينكوفسكي ” الذي سلمه حزمة ضخمة من الوثائق و الأفلام التي نقلها بدوره إلى MI6 الذين كانوا مذهولين من درجة ذلك التعاون و كان الشئ نفسه بالنسبة للأمريكيين الذين تسلموا منهم نسخة من تلك الوثائق أيضا بشكل جعل كلا الجهازين يهتمون به و بلقائه حيث كان ” جريفيل وين ” هو المسئول عن تلك المقابلات لجمع كافة الأطراف مع بعضها البعض و تم إعتماده رسميا كأحد جواسيس الغرب المهمين داخل الإتحاد السوفيتي و أعطي له إسم كودي ” البطل ” .
و على مدار عامين كان ” أوليج بينكوفسكي ” الذي أصبح خائنا رسميا لبلاده يقوم بتزويد الغرب بوثائق سرية للغاية تشمل خطط حربية و معلومات عسكرية و مخططات لصواريخ نووية و كان يتم تهريبها بشكل روتيني من خلال جهات إتصال مثل ” جريفيل وين ” أو ” جانيت تشيشولم ” زوجة “راوري تشيشولم ” ضابط مخابرات بريطاني كان يعمل في سفارة بلاده فى “موسكو” أو من خلال وضع الوثائق داخل علب السجائر و صناديق الحلوى التي كان يخفيها في الأماكن العامة المتفق عليها فيما يعرف باسم “إسقاط الرسائل الميتة” حيث سمح له ذلك الأسلوب بنقل الأشياء إلى الغربيين دون لفت الانتباه و أحيانا كان يقوم بالسفر إلي “لندن” بسبب أن طبيعة عمله تتطلب ذلك مما يجعله يقوم بلقاء عدد من المسئولين و تزويدهم بمعلومات مكثفة وصلت إلى 140 ساعة و أكثر من 5000 صورة سوفيتية و كانت تلك المعلومات لا تقدر بثمن حيث أنتجت 1200 صفحة من النصوص دفعت كل الجهازين الإستخباريين إلي تكليف 30 مترجمًا و محللاً للعمل عليها كما ساعدت معلوماته فى تطمين الأمريكيين أن القدرات النووية السوفيتية كانت أدنى بكثير من الترسانة الأمريكية .
و مع إندلاع أزمة الصواريخ الكوبية في 14 أكتوبر عام 1962 أنخرط كلا الزعيمين الأمريكي ” جون كينيدي ” و السوفيتي ” نيكيتا خروتشوف ” في مفاوضات متوترة و لكن كان الأمريكيين هم الأكثر ثباتا بفضل المعلومات التى قدمها إليهم ” أوليج بينكوفسكي ” و ساعدت محللي الوكالة فى التعرف بدقة على طبيعة الصواريخ السوفيتية التي تم تصويرها في “كوبا” و إعطاء الرئيس “كينيدي” تقارير حول مدى و قوة تلك الأسلحة حيث أظهرت المعلومات التى أرسلها ” أوليج بينكوفسكي ” أن الترسانة السوفيتية كانت أصغر و أضعف مما كان يعتقده الأمريكيين سابقًا و كشفت معلوماته أيضا أن أنظمة التوجيه السوفيتية لم تكن تعمل و لا حتى أنظمة التزود بالوقود و بتجميع معلوماته و ضمها مع صور طائرات التجسس إستطاع الأمريكيين بدقة تحديد مواقع إطلاق الصواريخ السوفيتية و الأهم من ذلك تيقنهم من قدراتها الضعيفة حيث أعطت تلك المعلومات الثقة للرئيس ” كينيدي ” و أعطته اليد العليا التي يحتاجها للتفاوض بنجاح بعيدًا عن حافة الحرب النووية إلي أن أنتهت الأزمة بعد 14 يومًا من المفاوضات المتوترة و وافق “خروتشوف” في 28 أكتوبر على سحب الأسلحة السوفيتية من “كوبا” و تنفس العالم الصعداء.
أقرأ أيضا : فيتالي يورتشينكو الجاسوس الروسي الذى تلاعب بالمخابرات السوفيتية و الأمريكية فى وقت واحد
و على الرغم من دور ” أوليج بينكوفسكي ” الفعال فى تلك الأزمة إلا أن عمله التجسسي الذي غيّر العالم سارع إلى وفاته فقبل ستة أيام من حل “كينيدي” الدبلوماسي الناجح للأزمة تم القبض على “بينكوفسكي” الذى ليس من الواضح حتى اللحظة معرفة كيف تم إكتشاف أمره و لكن تقول إحدي النظريات إلي أن السبب هو عمل رجل الإستخبارات البريطاني ” راوري تشيشولم ” مع ظابط إستخبارات بريطاني أخر يُدعى “جورج بليك” و الذي كان عميلاً للمخابرات السوفيتية KGB و كان له الفضل سابقا فى كشف أسرار العملية جولد حيث يرجح أن ” بليك ” هو من فضح أمر ” أوليج بينكوفسكي ” و أثار حوله الشكوك ليبدء السوفييت فى مراقبته حتى تأكدوا من خيانته و هو ما أدي إلي إعتقاله و محاكمته علانية في مايو عام 1963 و حُكم عليه بالإعدام و تم تنفيذ الحكم الذى تضاربت الروايات حول أسلوبه حيث يقول “ألكسندر زاجفودين” رئيس المحققين في المخابرات السوفيتية أنه أستجوب ربما مائة مرة ثم أطلق عليه الرصاص بعدها بينما يقول ” فلاديمير ريزون ” وكيل الإستخبارات العسكرية الروسية فى مذكراته أنه شاهد لقطات لـ ” أوليج بينكوفسكي ” و هو مربوط على نقالة داخل محرقة الجثث و يحترق على قيد الحياة و أي كان السيناريوهين هو الأصح لكن العميل المزدوج أعلن وفاته في 16 مايو عام 1963 و تم إلقاء رماده في مقبرة جماعية في موسكو .