تقع جزيرة رانجل في المحيط المتجمد الشمالي بين بحر سيبيريا الشرقي و بحر تشوكشي لذلك فهي محاطة بالجليد معظم أيام السنة و دائما ما تضربها رياح إعصارية عنيفة في جميع أنحاءها و تشتهر بأنها كانت آخر معقل معروف للماموث الصوفي و موقع لأكبر تجمعات الدببة القطبية في العالم كما شهدت أراضيها أيضا في أوائل عشرينيات القرن الماضي واحدة من أكثر البعثات المشؤومة في التاريخ حين هبط خمسة أشخاص علي أراضيها لإستكشافها و المطالبة بملكيتها و لكن نظرا لقسوة البيئة المحيط بهم هلكوا جميعا بإستثناء إمرأة واحدة من الإنويت تبلغ من العمر 25 عامًا و تُدعى آدا بلاك جاك التي كتبت لها النجاة بأعجوبة بعد هلاك رفاقها و تعيش لتروي قصة ما حدث و كيف إستطاعت النجاة بفردها في وسط كل تلك الأجواء الصعبة .
كانت تلك الرحلة الإستكشافية المشئومة من بنات أفكار ” فيلهجالمور ستيفانسون ” و هو مستكشف ولد بمقاطعة “مانيتوبا” في ” كندا ” و خلال حياته كان قد أعترض على فكرة كون المنطقة القطبية الشمالية أرضًا قاحلة و غير مضيافة و دائما كان يروج بين الناس بأنه “القطب الشمالي الصديق” و على الرغم من أن جزيرة “رانجل” أرضًا تابعة لدولة ” روسيا ” إلا أن حقيقة كونها غير مأهولة تعني في نظر “ستيفانسون” بأنه سيكون من الممكن المطالبة بها لصالح “كندا” أو “المملكة المتحدة” و هو حلم يبدو مدفوعًا برؤية تحويلها إلى قاعدة جوية للطائرات المستقبلية المعنية برحلات القطب الشمالي .
و من أجل الإعداد لتلك الرحلة قام بتجنيد أربعة شبان ثلاثة أمريكيين و كندي أما بالنسبة إليه فسيكون هو القائد الإسمي و سيدير البعثة من مكانه و سيمنح الفريق الدعم لتقديم مطالبه و بدأت الحملة في التحرك من مدينة “سياتل” الأمريكية في 18 أغسطس عام 1921 ثم وصلوا إلى مدينة “نومي” في ولاية “ألاسكا” و لتأمين المرور إلي جزيرة “رانجل” نجحوا في إستئجار سفينة تقلهم إلي وجهتهم و حاولوا الإستعانة ببعض من السكان الأصليين لكنهم فوجئوا أن جميعهم رفضوا الذهاب إلي هناك بإستثناء إمرأة واحدة كانت تنتظرهم علي الرصيف أثناء إستعدادهم الرحيل و تدعي ” آدا بلاك جاك ” التي كانت قد ولدت في منطقة ” بلاك جاك ” عام 1898 بمستوطنة “سبروس كريك” الأصلية في “ألاسكا” ثم أرسلتها والدتها في سن مبكرة إلى “نومي” لتتربي على يد المبشرين الميثوديين الذين علموها القراءة و الكتابة و طهي الطعام كما أنها أصبحت خياطة محترفة و مهاراتها في صنع ملابس الفراء لا تقدر بثمن .
و خلال الرحلة كان من المفترض أن تقوم ” آدا بلاك جاك ” بإستخدام مهاراتها في الصيد لتأمين الغذاء و أدوات البقاء الأساسية إلا أنها و نظرا لعيشها في المدينة فلم تكن تمتلكها إلا أنها كانت مضطرة للموافقة بعد أن وعدها “ستيفانسون” بمبلغ 50 دولارًا شهريًا خلال فترة وجودها مع تلك البعثة في الرحلة الإستكشافية و هو مبلغ أكبر بكثير مما كان يمكنها الحصول عليه بطريقة أخرى حيث كانت تحتاج إلى المال بعد أن تركت زوجها “جاك بلاك جاك” الذي تزوجته عندما كانت في السادسة عشرة من عمرها و كان يداوم علي ضربها و تجويعها ثم تخلى عنها في النهاية كما أنه من بين الأطفال الثلاثة التي قامت بإنجابهم توفي إثنان منهم أما الناجية الوحيدة فكانت إبنتها ” بينيت ” و كانت تعاني من مرض السل المزمن و تعيش في دار للأيتام لأن الأم لم تكن قادرة على تحمل تكاليف رعايته بنفسها .
و خلال الرحلة و رغم موافقة ” آدا بلاك جاك ” علي الذهاب مع المستكشفين إلا أنها كانت متوترة بشكل مفهوم لسبب واحد و هو أنه كان لديها خوف عميق الجذور من الدببة القطبية كما أنها لم تعتقد أنه من الصواب لها أن تسافر بمفردها إلى جزيرة نائية مع أربعة رجال الذين كانوا هم بدورهم أيضا كانوا يعتبرون أنه من غير المناسب السفر مع أنثى واحدة لكنها كانت قد أعطتهم كلمتها و هم في المقابل وعدوها بأنهم سيوظفون المزيد من الإنويت خلال توقفهم في “سيبيريا” و هكذا في 9 سبتمبر أنطلق الكندي “ألان كروفورد” البالغ من العمر 20 عامًا و الأمريكيين “لورن نايت” و “فريد مورير” و كلاهما 28 عامًا و “ميلتون جالي” 19 عامًا و القطة “فيك” التي قدمها إليهم طاقم السفينة التي نقلتهم إلي “نومي” و بعد أسبوع واحد وصلوا إلى “رانجل” بمفردهم بعد أن فشلوا في الحصول علي أي خدمات من الإنويت و شعرت ” آدا بلاك جاك “على الفور بالمتاعب التي كانت في إنتظارها و عندما رفع الرجال علم الاتحاد و أعلنوا أن الجزيرة مملوكة لبريطانيا كانت هي تسير إلى الشاطئ و عيناها تغرق في الدموع أثناء مشاهدتها السفينة المغادرة .
و لحسن حظ البعثة فى تلك الأثناء أن الطقس كان معتدلاً بشكل مدهش و سرعان ما تكيفوا على إيقاعه و لكن بعد بضعة أسابيع بدأت تظهر بعض من المشكلات حين أصبحت ” آدا بلاك جاك ” تشعر بالحنين إلى الوطن و أصبحت خائفة و منعزلة و كان يرعبها كل مشهد لأي واحد منهم و هو يحمل سكين حيث كانت تعلم أن لا أحد منهم كان يريدها و أنهم جميعًا ندموا على أخذها و في أحد الأيام خرجت إلى الثلج و معها زجاجة بها مرهم كانت قد خططت لتناولها لتقتل نفسها و في مناسبة أخرى أتبعت آثار الثعالب بعيدًا عن المعسكر لأنها أعتقدت أن هناك أرواحًا تتنكر في زي ثعالب و بأنه إذا تمكنت من العثور عليها فسيتم معاملتها بلطف و بدأت حياتها بالإضطراب و أصبح طهيها و خياطتها متقطعًا و ردًا على ذلك حاول الرجال في البداية تهدئتها و مع مرور الوقت بدأوا في السخرية منها ثم تحولوا إلى حرمانها من الطعام و أجبروها على البقاء خارجا في البرد حتى أنهم ربطوها بسارية العلم و في إحدى المرات هددوها بالجلد .
و مع إقتراب فصل الشتاء بدا أن مزاج ” آدا بلاك جاك ” قد أصبح لطيفا و أنكبت بنفسها علي العمل و أتحدت مع الرجال للعيش في الأشهر المظلمة و الباردة و حاولت معهم البقاء على قيد الحياة و الحصول علي الدفء و ردع الدببة القطبية التي تهاجم المخيم و طوال تلك المدة كانوا يتطلعون إلى الصيف و وصول سفينة الإغاثة و لكن حين حلوله تبدد ذلك الأمل بعد أن ظل الحاجز الجليدي حول الجزيرة قائمًا و لم تتمكن السفينة التي أرسلها “ستيفانسون” من “ألاسكا” من الوصول إليهم و يعود الشتاء مجددا و معه معاناته ليس فقط عاطفيًا و لكن جسديًا أيضا و رغم وعود “ستيفانسون” إليهم بأن الطرائد في المكان سوف تكون وفيرة إلا أن الكثير من الفرائس المحتملة مثل الثعالب و الفقمات و الدببة كانت قد أنتقلت إلى مكان آخر في الجزيرة و بدأوا في الضعف و خاصة “نايت” الذي أصيب بالمرض أثناء قيامه بإستكشاف منفرد و بدأت تظهر عليه علامات مرض الإسقربوط و أخيرًا في يناير عام 1923 و مع إنخفاض درجات الحرارة إلى 50 درجة تحت الصفر أنطلق “كروفورد” و “ماورير” و “جالي” عبر الجليد البحري بإتجاه “سيبيريا” بهدف الحصول علي النجدة لكنهم لم يظهروا أبدا مرة أخرى .
و تُركت ” آدا بلاك جاك ” مع ” نايت ” الذي أصبحت حالته تتدهور بسرعة و أصبح لزامًا عليها الآن و هي الشابة التي لم تعيش في البرية من قبل أن تعيلهما معًا و بدأت فى تعليم نفسها كيفية إصطياد الثعالب في الفخاخ و إطلاق النار على الطيور من السماء حتى أنها أستجمعت شجاعتها لإخافة الدببة و إبعادها عن المعسكر و كانت تعطي “نايت” نصيب الأسد من اللحوم الطازجة لمكافحة مرض الإسقربوط و لكن مع تزايد تدهور حالته كان يقوم بتوبيخها بشكل دائم متهمًا إياها بعدم القيام بما يكفي لإطعامهم و مع مرور الوقت بدأت هي الاخري تصاب بنفس المرض مع ظهور الأعراض الأولية له .
و في 23 يونيو توفي “نايت” و لم تتحمل ” آدا بلاك جاك ” ذلك و لم يكن لديها القوة لإخراجه من كيس نومه لذلك أقامت حوله متراسًا من الصناديق الخشبية لحمايته من الحيوانات البرية ثم أنتقلت إلى خيمة التخزين هربًا من رائحة العفن و أصبحت الآن بصرف النظر عن الرفقة التي قدمتها القطة “فيك” وحيدة حقًا و كانت تأمل و تتوقع عودة الآخرين لكنها لا تستطيع أن تعرف على وجه اليقين ماذا سيحدث لها لو أضطرت لقضاء شتاء آخر في هذا المكان القاسي و البعيد و هل سترى إبنتها “بينيت” مرة أخرى و بعد وقت قصير من وفاة “نايت” تمكنت من إصطياد الفقمة الأولي و لكن مع إنخفاض قوتها بدأت في التركيز على جمع البيض و قامت بمحاولة إستخدام الأخشاب و الجلود لبناء قارب لنفسها إلا أن الرياح قد قامت بحمله إلي البحر و أضطرت لبناء واحد أخر ثم أنتظرت .
و في يوم 20 أغسطس أستيقظت ” آدا بلاك جاك ” من نومها معتقدة أنها سمعت ضجيجًا و أمسكت بنظاراتها الميدانية و هرعت إلى الخارج لكن الضباب كان يغطي الجزيرة و للحظة وجيزة رأت سفينة من خلال نظارتها و هرعت إلى الشاطئ و سقطت في الماء بمجرد وصول القارب إليها و توقعت أن يكون “كروفورد” و “ماورير” و “جالي” علي متنه لكنها فوجئت بخروج شريك المستكشف ستيفانسون “هارولد نويس” و مع الكلمات الأولى التي تبادلاها أدرك كلاهما خطورة الوضع بالكامل و أصبحت “آدا بلاك جاك” الخياطة الإينويتيه و التي كانت مترددة من تلك الرحلة الإستكشافية و تم التقليل من شأنها و توبيخها و تقييدها هي أخر الناجين بعد أن تعلمت الصيد و صنع الفخاخ و العيش في القطب الشمالي و فور معرفتها بأنها ستعود علي وطنها إنهارت بين ذراعي “نويس” و بكت .
أقرأ أيضا : جوليان كوبكي الفتاة المعجزة التى كتبت لها النجاة من تحطم طائرة و عاشت بمفردها لأيام فى أعماق غابات الأمازون
و أثار عودة ” آدا بلاك جاك ” و مقتل أعضاء البعثة الآخرين ضجة كبيرة لكن ” آدا بلاك جاك ” حاولت تجنب كل ذلك و أخذت إبنتها “بينيت” إلى مدينة سياتل لعلاج مرض السل كما أنجبت إبنًا آخر يدعى “بيلي” و عادت في النهاية إلى “ألاسكا” حيث توفيت هناك في 29 مايو عام 1983 عن عمر يناهز 85 عامًا و دُفنت في مقبرة أنكوراج ميموريال بارك و يوجد على قبرها لوحة أقامها إبنها “بيلي” مكتوب عليها: “بطلة جزيرة رانجل” و بعد قرن من الزمان لا تزال قصتها تلقى صدى و إلهامًا على الأقل بين زملائها من سكان ألاسكا الأصليين .